انتهاء صلاحية «بيضة القبان»؟
لعبت أنظمة عديدة في بلدان ما اصطلح على تسميته «العالم الثالث»، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي دوراً يشبهه البعض بدور «بيضة القبان» التي تعدل هذه الكفة تارة وتلك تارة أخرى.
أحد أشكال هذا الدور لعبته بعض دول حركة عدم الانحياز التي ظهرت عام 1955، رغم أنّ الاتجاه العام للحركة في بداياتها كان معادياً للغرب بالمعنى السياسي، ولكن الاتجاه الاقتصادي في الجزء الأعظم منها لم يتأخر كثيراً عن الاندماج بالسوق الرأسمالية متحولاً إلى احتياطي للغرب ضمن الصراع. أي: إنها لعبت عبر عقود النصف الثاني من القرن الماضي دوراً مزدوجاً يبدو في الإطار السياسي قريباً من المعسكر الاشتراكي، ولكنه في الإطار الاقتصادي (الذي هو في نهاية المطاف أساس أي موقف أو توجه سياسي) أقرب للغرب، بل ومع الوقت مندمج ضمنه من موقع التابع والمنهوب...
كانت المعادلة الواضحة والمسيطرة هي الانقسام العالمي بين الاتحاد السوفييتي كنواة أساسية ضمن «معسكر الدول الاشتراكية»، مقابل الولايات المتحدة وحلفها، أو كما أسموا أنفسهم «العالم الحر».
المعادلة الأكثر أهمية، تمثلت في الصراع المستمر، والذي يتحرك على خلفيته قسم غير قليل من أنظمة «العالم الثالث» بما فيها تلك القريبة من «المعسكر الاشتراكي».
الحالة السائدة في هذه الأنظمة تمثلت بالسيطرة السياسية والاقتصادية لطبقات وسطية غير جذرية؛ فلا الرأسمالية الكبرى التقليدية سيطرت، ولا الطبقة العاملة سيطرت، بل في أغلب الأحوال برجوازيات صغيرة ومتوسطة. وفي الإطار الفكري والنظري أيضاً كان الوضع بين بين؛ فلا الأفكار الاشتراكية الجذرية سيطرت، ولا أفكار الرأسمالية بشكلها الصافي، بل خليط انتقائي يتحول وتتحول تناسباته بتحول موازين الصراع، وظهر ذلك في تنويعات قومية ودينية وعلمانية وطائفية، معاً وفي وقت واحد! وفي الإطار الديمقراطي العام، تعمقت الطبيعة العسكرية والقمعية لهذه الأنظمة والتي شكلت ضرورة موضوعية للقبض على روح التطور وتسييره وفقاً لمعادلات بيضة القبان نفسها، بما يعنيه ذلك ضمناً من تكييف البنية الداخلية للدول بكل مفرداتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بما يتلاءم مع الحالة الهلامية عديمة الهوية، أو صاحبة الهوية المشتتة بين الإنتاجي والريعي، بين الاستقلالية الاقتصادية في جوانب محددة والتبعية الكاملة في جوانب أخرى، وإلى جانب ذلك كله، بل وفوقه: التبعية التكنولوجية المستمرة والحفاظ على التخلف ورعايته كأداة في ضرب الطبقتين الأساسيتين في المجتمع (الطبقة العاملة والبرجوازية الكبيرة المنتجة) ومنع تطورهما.
رغم ذلك، فإنّ هلامية وميوعة الأساس الفكري والاقتصادي والطبقي لهذه الأنظمة، لعبت في وقت ما دوراً «إيجابياً» بوصفها ماصاً للصدمات على المستوى الدولي، بحكم طبيعتها الانتهازية والقابلة للتحول، بتحول الموازين والظروف الدولية، والحقيقة الأكثر عمقاً، أنّ «اللّعب» باستخدام هذه الميوعة، وإنْ كانت بعض الأنظمة تظنه لعباً بالموازين الدولية، إلا أنّها هي نفسها كانت ألعوبة هذه الموازين وموضوع صراعها... أياً يكن الأمر، فإنّ هذه الظاهرة كغيرها من الظواهر التاريخية، لها في النهاية عمر تنتهي بنهايته...
التطور الداخلي «الطبيعي» لهذه الأنظمة، بالتوازي مع التغيرات الدولية التي وصلت حد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكن أساساً التطور الداخلي الموضوعي، لعب دوراً كبيراً في تصلب تلك الهلامية التي تحدثنا عنها، وفي فقدان المرونة التدريجي.
من طبيعة تطور «البرجوازية الصغيرة»، سعيها أن تكبر، ولكن شكل «الكبر» هذا، ونوعيته، محكومٌ بجملة من العوامل الداخلية والخارجية. ويمكن القول بشكل مبسط: إنّ سيطرة الاستعمار الحديث الاقتصادي بآلياته المعروفة (التبادل اللامتكافئ، مقص الأسعار، هجرة العقول، التبعية التكنولوجية)، قد ساعدت تطوراً محدداً لهذه الطبقة باتجاه أشكال فاسدة من البرجوازية البيروقراطية والطفيلية (استيراد وتصدير بشكل أساس)، ولم يطل الوقت حتى اتحدتا ووصلتا إلى شكل من البرجوازية الجديدة المالية عديمة الهوية الإنتاجية والقائمة على النهب والفساد والنشاطات الريعية، والتي تصب أرباحها ونهبها في المراكز الغربية، بمعنى أنّ بلدان العالم الثالث تحولت إلى مكان لنهب مضاعف داخلي وخارجي، وحُرمت من أي موارد جدية للنمو.
تسارع هذا «التطور» خلال عقدي السبعينيات والثمانينات، مع بداية ظهور تغير ميزان القوى الدولي، وأخذ منحنى شديد الصعود بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبدا الأمر وكأنّ دور بيضة القبان لم يعد مطلوباً أصلاً بغياب الطرف المصارع للغرب.
مع بداية الألفية، وبشكل خاص مع بداية عقدها الثاني الذي عادت فيه روسيا والصين لتظهرا بشكل حاسم كقوتين صاعدتين بقوة جبارة، إلى جانب صاعدين عمالقة آخرين على رأسهم الهند، بدا وكأن دور بيضة القبان قد بات ممكناً مرة أخرى، بطريقة أو بأخرى... لكن عاملين حاسمين يجعلان من آمال لاعبي هذه الأدوار التاريخيين أضغاث أحلام...
العامل الأول: هو فقدان الشريحة المسيطرة اقتصادياً لطبيعتها الهلامية القديمة، والتي كانت لا تزال تحافظ على علاقة ما مع عموم الناس، وتحولها بشكل نهائي إلى قلة شديدة التمركز وشديدة النهب والتبعية في الوقت نفسه.
العامل الثاني: هو شكل تطور الصراع الدولي وموضوعه الأساس، فالصراع اليوم هو بالضبط بين الاستعمار القديم- الحديث بما يعنيه من سيطرة الغرب على العالم المستمرة منذ خمسة قرون، وبين نظام علاقات دولية جديد بالكامل يقوم على أنقاض التبادل اللامتكافئ، ويتطلب موارد ضخمة، مادية وبشرية، لتحقيق الاستقلال الكامل عن التبعية للغرب. وهذا لا يتطلب إنهاء النهب فحسب، بل وإنهاء مختلف أشكال الصراعات البينية بين دول آسيا بالدرجة الأولى، وبين دول إفريقيا بالدرجة الثانية، لأن بقاء هذه الصراعات يعني بقاء الحدود مغلقة في وجه طريق الحرير الذي يشكل القاعدة المادية والبنية التحتية للاستقلال عن الغرب.
وحل هذه الصراعات أيضاً، يحتاج بنىً سياسية جديدة تقطع نهائياً مع شكل وطريقة إدارة البلدان خلال مرحلة التبعية، والتي استندت دائماً وأبداً إلى وجود التهديد الخارجي من كل الجهات كأداة لتبرير القمع الداخلي ومنع التطور وتعميق النهب وتكميم أفواه الناس.
إنّ انتهاء دور بيضة القبان، لا يعني تحولاً بسيطاً في شكل إدارة بلدان «العالم الثالث»، بل يعني فتح الباب نحو تحّول جذري في هذه البلدان؛ لأنّ كونها بلدان عالم ثالث متلازم مع دور بيضة القبان، أي: إن هذا الدور ليس تكتيكاً تلعبه الأنظمة، بل هو جوهر وجودها، وبانتهائه لن تنتهي هي فقط، بل ستنتهي «ثالثية» العالم الثالث
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 918