الأفق الإقليمي... استقلال ثانٍ
أحمد علي أحمد علي

الأفق الإقليمي... استقلال ثانٍ

تأسست دول منطقتنا المتوترة في رحم الاستعمار، وإذ رسم حدودها السياسية، فإنه بخروجه وترسيخ آليات الاستعمار الحديث منذ ستينات القرن الماضي، رسم حدوداً لإمكانية التعاون فيما بينها، بل حدّد إلى حدٍ بعيد شكل العلاقات المشوّهة فيما بينها... 

اليوم، وفي رحم أزمة رأس المال العالمي، ينفتح أفق التراجع في علاقات الاستغلال العالمي، وينفتح بالتالي أفق ترميم وتطبيع العلاقات بين دول منطقتنا من المتوسط وصولاً إلى قزوين وأبعد من هذا غرباً وشرقاً، العملية التي تعتبر معلماً من معالم المخاض الذي تمر به دول الإقليم، والعالم.

«الاستقلال.. موجة أولى»!

لقد حققت الدول التي كانت مُستعمَرة من الغرب استقلالها في القرن الماضي، عبر موجة من الاستقلال يمكننا أن نعتبرها اليوم موجة أولى، لها صبغة معينة اكتسبتها من روح المرحلة التاريخية التي حصلت فيها.
ما حصل فعلياً في تلك المرحلة، هو: استقلال بالمعنى المباشر؛ أي: تحولت هذه الدول إلى دول مستقلة لها سيادتها على أراضيها، ولها جيوش تحميها وتدافع عنها، وما ترافق مع ذلك من موقع لها في هيئة الأمم المتحدة، وما نتج لاحقاً من دور لهذه الدول على مستوى الإقليم بما يتوافق مع حجم الدولة المعنية ووزنها وإمكاناتها... إلخ.

«تبعية غير مباشرة»

موجة الاستقلال تلك، ورغم ما أنتجته من دول مستقلة بالمعنى المباشر، فإنها أنتجت بالمقابل دولاً تابعة بالمعنى غير المباشر. وطالما أن الحديث يدور عن تبعية، فهذا يعني وجود أدوات لهذه التبعية يتم من خلالها التحكم بالدولة المعنية بشكل غير مباشر، بعد أن أصبح الشكل المباشر للتحكم (الاستعمار التقليدي) غير متاح، وغير ممكن.

«أدوات التبعية»

عند الحديث عن الأدوات المستخدمة، تبرز لدينا أداتان أساسيتان: إحداهما: اقتصادية، وهي جملة سياسات التبادل اللامتكافئ؛ التي تعد أهم آليات الاستعمار الحديث- الاقتصادي، والتي ارتكزت تاريخياً على تقسيم دولي لبلدان العالم، أحد طرفيه دول مستهلكة والآخر دول مُصنّعة، ويعتمد هذا التبادل على حصر دور الدول «المستعمَرة اقتصادياً» على تصدير المواد الخام لكي تجري عملية تصنيعها في الغرب، ومن ثم إعادة تصديرها من الغرب إلى تلك الدول بإضعاف قِيمها الحقيقية. ولقد كانت هذه السياسات وما زالت حتى حينه أداة قمع ونهب اقتصادي مفروضة على شعوب المنطقة قاطبةً.
والأداة الأخرى تعد أداة سياسية عملياً، وهي: اتفاقية «سايكس بيكو»؛ تلك الاتفاقية المشؤومة التي تمت بين إنكلترا وفرنسا في عام 1916، والتي تم الاتفاق فيها على تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة، وفصل هذه الدويلات عن بعضها البعض بطريقة اُصطنعت من خلالها بذور خلاف بين هذه الدول من أجل استثمارها في وقت لاحق بما يخدّم مصالح المستعمِر وأهدافه، وجرى عملياً التطبيق العملي لهذه الاتفاقية برسم حدود المشرق كما نعرفها الآن في معاهدة «سيفر» ومؤتمر «سان ريمو» عام1920.

«سُبل كسر الهيمنة»

وفقاً للأداتين السابق ذكرهما في تثبيت تبعية هذه الدول المستقلة إلى الغرب، فإن إزالة علاقات التبعية هذه، يتم بالمعنى الاقتصادي عبر كسر سياسات التبادل اللامتكافئ، عن طريق تحويل شعار «التوجه شرقاً» إلى واقع فعلي ينهي بالتدريج حالة الهيمنة الغربية الموجودة، ويعني فتح أبواب النشاط الاقتصادي التعاوني بين دول المنطقة مع بعضها البعض، وبين قوى العالم الصاعد الأكثر انفتاحاً ومصلحة بعلاقات التعاون. وبالمعنى السياسي عبر زيادة علاقات التعاون والتنسيق السياسي بين هذه الدول مع بعضها البعض، وتجاوز آثار «سايكس بيكو» نفسها مع الدول المحيطة، وهنا لا نعني أبداً السعي باتجاه توحيد هذه الدول، بل نعني بالضبط تجاوز الخلافات بين هذه الدول، وتفعيل التعاون بكل أشكاله فيما بينها.

«الاستقلال.. موجة ثانية»!

إنْ كانت التوازنات الدولية سابقاً قد سمحت بتحقق وتكريس مستوى ما من الهيمنة والتبعية للغرب على دول المنطقة عموماً، فإن التوازنات الدولية الجديدة اليوم تسمح فعلياً بتجاوز علاقات التبعية هذه، وكسر قيودها، من خلال الانقلاب على إحداثياتها السياسية والاقتصادية، والانقلاب على التناقضات الثنائية التي عمل الغرب على تفعيلها في إطار مشروعه المعلن: «الفوضى الخلاقة»، والذي يتلقى اليوم ضربات موجعة.

المخاض السوري يفتح الأفق

إذا ما قارنا سورية بإيران أو تركيا أو مصر أو السعودية، فقد لا تكون سورية الدولة المحورية في إقليمنا من حيث الوزن الاقتصادي والتعداد السكاني والموارد الطبيعية، ولكن هذا البلد في شرق المتوسط، كان دائماً لاعباً سياسياً بارزاً، ونقطة تتشابك فيها مصالح كل دول الإقليم، ومفتاحاً في طريق الغرب نحو الشرق، والعكس بالعكس. الأمر الذي يتجلى بوضوح في الأزمة السورية وامتدادات تأثيرها... فعملياً لا تستطيع الأزمة السورية أن تكون سورية فقط، بل هي أزمة تركية بل وروسية، وأزمة مصرية ولدول المتوسط الأوروبية، وأزمة عراقية وإيرانية، وكذلك أزمة لدول الجنوب العربي حتى الخليج. ولذلك فإن مشروع الفوضى الأمريكي، كان ولا زال معنياً بإدامة اشتباكها، ومعنياً أكثر بألّا تُحل في إطار تفاهم إقليمي، كما يحدث في أستانا مثلاً. لأن لشكل حلها، ولنجاحه تأثيرات مديدة أيضاً على طبيعة التأزم في الإقليم الذي يريده الغرب الأمريكي تحديداً، متوتراً.
إن تطورات الأمور تشير إلى أن السير باتجاه حل الأزمة السورية يدفع لتخفيض التوترات بين دول الإقليم فيما بينها، وإعادة بناء علاقاتها البينية.
كما يدفع لحل القضايا العالقة المزمنة داخل هذه البلدان كالقضية الكردية مثلاً.
وبنفس الوقت لا يمكن بطبيعة الحال، أن ينظر إلى كيان الاحتلال الصهيوني، إلّا بصفته كياناً مشوّهٍاً يلعب دوراً توتيرياً بصفته مخلباً للغرب... وسيزول دوره ووظيفته كلما تراجع الغرب، وكلما أسست دول الإقليم لعلاقات تعاونية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً فيما بينها. فالكيان وُجد وخُلِق للتوتير والحرب، وإنهاء كليهما يعني: إزالة أسباب وجوده، وفتح أفق زواله.
إنَّ استكمال عملية الانقلاب على عقود وعقود من تبعية المنطقة للغرب، وما ينشأ عنها من توتُّر بين دول الإقليم وداخلها، يرسم معالم الاستقلال الجديد المطلوب، بما يعنيه ذلك من إحداثيات جديدة سياسية واقتصادية قائمة على التعاون، وتلائم عصر اليوم وتوازناته، وتسهم في تحقيق جولة ثانية من الاستقلال، تستكمل الأولى، وتتجاوز مشكلاتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
911
آخر تعديل على الإثنين, 29 نيسان/أبريل 2019 14:01