أمان.. (المنطقة الآمنة)
يحاول الأمريكان الاستفادة القصوى من التناقضات واستمرار خلق الفوضى والتوتر الحاصل بين الأطراف السياسية والعسكرية الفاعلة في شرق الفرات قبل خروجهم من الأراضي السورية، وهذا ما جرى ويجري من خلال ما تم التصريح به بشأن المكالمة التي جرت بين الرئيسين الأمريكي والتركي، حول إقامة منطقة آمنه بعرض ثلاثين كيلو متراً بهدف منع الاحتكاك بين قوات قسد والقوات التركية، وجاء تأكيد الرئيس التركي على إمكانية تحقيق هذه المنطقة الآمنة في حال تم دعمها من التحالف الدولي.
لقد جاءت ردود الفعل مختلفة على مقصد إقامة المنطقة الآمنة وهي متباينة في مراميها وأهدافها السياسية والعسكرية، وبالأخص ما رمى إليه الأمريكان بطرحهم هذا، وهو استمرار الصراع وتأجيجه وخلط الأوراق السياسية بين القوى المتعددة والرامية إلى تعقيد أيّة إمكانية في إنجاز الحلول التي تتبناها مجموعة الترويكا، والتي تم الاتفاق حولها في الاجتماعات المتكررة لأطرافها، حيث يتأخر إنجاز بعضها بسبب الإعاقة الأمريكية والمراوغة التركية للاستفادة ما أمكن من التناقضات الجارية على الأرض.
ردود فعل القوى السياسية الكردية على الطرح الأمريكي كانت متفاوتة، ولكن جميعها قَبِلَ بوجود منطقة آمنة مع تقديم التبرير الذي ينطلق منه كل موقف من المواقف:
آلدار خليل مسؤول العلاقات الخارجية لحركة المجتمع الديمقراطي، يقول: المنطقة الآمنة يجب أن تكون تحت الرعاية الدولية، وفي تصريح آخر لوكالة أنباء هاوار قال: إنهم لن يقبلوا بأية منطقة آمنة تحت الرعاية التركية.
عضو المجلس الوطني الكردي «عبد الحميد التمو» قال: موقفنا مرهون بشأن المنطقة الآمنة بموقف الائتلاف الذي هو داعم لهذه العملية، سواء كانت تدخلاً مباشر أو إنشاء منطقة آمنة تحت إشراف تركيا.
أما الرئيس التركي أردوغان، فما انفك يؤكد على أن تركيا ستقيم المنطقة الآمنة في سورية، والتي تم نقاشها مع الرئيس الأمريكي ترامب.
الطرف الروسي، وعبر وزير خارجيته لافروف، فقد أشار في حديث له أمام الصحفيين في موسكو: أن الحل الوحيد والأمثل، هو نقل هذه المناطق لسيطرة الحكومة السورية وقوات الأمن السورية والهياكل الإدارية.
وأخيراً، الحكومة السورية وعبر وزير الخارجية، أعلنت رفضها لإقامة منطقة آمنة كما اقترحها الرئيس الأمريكي.
إن طرح ما يُسمى «المنطقة الآمنة» وتحديداً في الشمال السوري، هو طرح متكرر خلال سنوات الأزمة... فتركيا كانت تطرحه حتى قبل حدوث الانعطافة النسبية في موقفها من الأزمة السورية، وقبل انضمامها إلى ركب مسار أستانا، والعمل ضمن إطار الترويكا. وكان هذا الطرح ولا زال يلقى صدى إيجابياً أمريكياً، ولكن هذا لم يتعدّ الصدى، ولم يتحول إلى أفعال فعلية.
إن المنطقة الآمنة بالمفهوم الدارج لها، والذي ضم سابقاً طروحات مثل: الحظر الجوي، والإدارة التركية أو الأمريكية، ومكان معزول يسمح بعودة اللاجئين... وغيرها. لم تكن يوماً قابلة للتطبيق خلال مسار الأزمة السورية. لأن إجراءات من هذا النوع تتناقض مع فكرة وحدة سورية، وضمان عدم تقسيمها، التي تنص عليها القرارات الدولية المتوافق عليها، وتحديداً 2254. ولا نقصد هنا بطبيعة الحال أن النصوص والالتزامات هي من تمنع حصول هذا الأمر، بل القوى التي تمتلك المصلحة والقدرة بالدفاع عن هذه الالتزامات وضمان تنفيذها. وهو ما تتيحه فعلياً توازنات القوى السياسية، ومن ضمنها العسكرية، للأطراف الدولية والإقليمية في الأزمة السورية، وتحديداً الطرف الروسي الفاعل الأساس دبلوماسياً وعسكرياً.
وحتى الأطراف الإقليمية الأخرى إيران، ومن ثم تركيا، أصبحت معنية جدياً بالدفاع عن وحدة واستقرار سورية، بعد أن أدركت أن تسوية الأزمة السورية مرتبطة بالاستقرار الإقليمي في المنطقة ككل، وحماية لهذه الدول أيضاً، وتحديداً تركيا.
ولكن هذا لا يعني أن تركيا لا تخضع للتجاذب الأمريكي، وأن «سلوكها» أصبح مضموناً. فتركيا لا تزال تتنازعها الانقسامات، ولا يزال جزء هام من الحكم التركي، كأي حكم مأزوم، يمتلك طموحات ضيقة الأفق، تتجلى بطموح وضع اليد على مناطق، وبالمنطق القومي المتشدد وغيرها.
ولكن كما يقال... الأمور بخواتيمها، فالوضع في المنطقة الشمالية الشرقية هو المفصل الأخير والأهم في الأزمة السورية، التي أصبحت تسويتها تترافق مع ترسيخ موازين القوى الجديدة عالمياً. تلك الموازين التي تقول بأن حل الأزمة السورية سيكون بتسوية سياسية: تضمن وحدة البلاد واستقرارها، وتضمن خروج كل القوات الأجنبية منها.. وهو ما يعني حلاً وحيداً للشمال، والشمال الشرقي السوري: إنهاء الإرهاب في إدلب ودير الزور- خروج الأمريكيين والأتراك- اندماج القوى السياسية الكردية في التسوية السياسية- وجود الجيش السوري وحده على الحدود وفي المناطق السورية كافة.