الأمم المتحدة: الثلث الثالث ومهمة «التيسير»
قلّ الحديث مؤخراً عن ملف اللجنة الدستورية وآلية تشكيلها، لحساب البلبلة الإعلامية التي أثارها موضوع الانسحاب الأمريكي من شمال البلاد. ومع عودة موضوع اللجنة الدستورية إلى واجهة الأحداث– وهو المتوقع أن يتم خلال الفترة القريبة القادمة- لا بد من وقفة عند الإشكالات التي أعاقت التقدم في هذا الملف، ولا سيما في حدود الدور الذي يمكن أن تلعبه الأمم المتحدة في هذا الإطار.
تنبغي الإشارة في البداية إلى أن الدّعوة إلى تشكيل اللجنة الدستورية قد نشأت في الأساس عن طريق مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي، الذي رعته ودعت له الدول الثلاث الضامنة (روسيا، تركيا، إيران) والمعروفة باسم «ترويكا آستانا»، ومنذ ذلك الوقت، لم يدَّخر الغرب جهداً لعرقلة تشكيل اللجنة الدستورية بالوسائل الممكنة كافة، ومن ضمنها الاستفادة من نفوذه داخل الأمم المتحدة للضغط في موضوع الثلث الثالث من تركيبة اللجنة. وهو ما بدا واضحاً في الاجتماع الذي جرى بين ترويكا آستانا وفريق الأمم المتحدة في مدينة جنيف يوم 18/12/2018، حيث ظهر الأخير بوصفه طرفاً في العملية أكثر من كونه وسيطاً دولياً.
الأمم المتحدة: حدود الصلاحيات
إلى جانب ميثاق الأمم المتحدة الذي يعتبر الناظم الأكثر شمولاً لعمل الموظفين والبعثات التابعة للمنظمة، والذي يؤكد صراحة في فصله الثاني على أنه «ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما»، يحدد قرار مجلس الأمن الدولي 2254 لعام 2015 حول سورية في بنوده 2و3و4 مهمة الأمم المتحدة بتيسير وتسهيل الوصول إلى انتقال سياسي بقيادة سورية، وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها من أجل إنهاء النزاع في سورية. وعلى هذا النحو، يؤكد الكتاب الصادر عن الأمم المتحدة في عام 2012 تحت عنوان «توجيهات الأمم المتحدة حول الوساطة الفعالة»، على أن وساطة الأمم المتحدة هي «مسعى طوعي، تكون فيه موافقة الأطراف أمراً حاسماً من أجل القيام بعملية قابلة للتطبيق».
وبناءً عليه، فإن حدود دور الأمم المتحدة في موضوع تشكيل اللجنة الدستورية السورية ينحصر قانونياً في إطار تيسير وتسهيل التوافق بين الأطراف السورية، بما في ذلك التوافق على قائمة أسماء الثلث الثالث المعروفة بقائمة ممثلي المجتمع المدني، والتي لا حقّ للأمم المتحدة في تعيينها، بل هو حقّ سوري- سوري بحت، عبر اتفاق النظام والمعارضة على لائحة الثلث الثالث «بتيسير» من الأمم المتحدة.
التوازنات الدولية ودور المنظمة
تعكس الأمم المتحدة، بوصفها مؤسسة دولية، واقع التوازنات وتغيراتها بين القوى الدولية، وخلال المرحلة السابقة، مثلت هذه المنظمة أداة من أدوات التوازن الدولي السابق الذي شهد اتساع نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم. وهو ما تجلى بتغييب عدد لا بأس به من قرارات مجلس الأمن الدولي، واتسام عمل أجهزة المؤسسات الدولية بالكثير من المحاباة للسياسات الأمريكية. وحتى الآن، لم ينعكس التوازن الدولي الجديد بشكلٍ حقيقي وكامل في عمل المؤسسات الدولية، حيث إن هذه العملية تسير نحو الأمام إلا أنها لم تُنجز بعد، ما يسمح للدول الغربية بالاستفادة من بعض هوامش المناورة التي لا تزال متاحة أمامها. إلّا أنه وبالرغم من ذلك، فإن التعويل على أن هوامش المناورة هذه سوف تسمح بدفع الأمور باتجاه الحسم خلافاً للواقع الذي يفرضه ميزان القوى الجديد هو مجرد وهم لا أكثر. وكذلك لا بدَّ من الإشارة إلى أن التوازنات الدولية تسمح شيئاً فشيئاً للأمم المتحدة وأجهزتها أن تتمتع، ربما للمرة الأولى منذ تأسيسها في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، بأعلى مستوى ممكن من الاستقلالية في عملها، ذلك أن أي مبعوث دولي، إذا كان مستقلاً من حيث القرار والتوجه فإنه سيجد ظرفاً مناسباً للعمل.
الثلث الثالث: لماذا الإصرار على التوافق؟
قامت الولايات المتحدة بالضغط- عبر الأمم المتحدة والمبعوث الدولي السابق إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، وكذلك المجموعة المُصغرة لتشكيل اللجنة الدستورية السورية كما تريد لها واشنطن أن تكون، حيث كان الهدف من محاولة حث دي ميستورا على أن يقوم بتعيين أسماء الثلث الثالث تعييناً أن يجري تفخيخ اللجنة الدستورية، بمعنى تحريف وتشويه تشكيل اللجنة، بحيث تكون نسخة ثانية عن تركيبة جنيف المعروفة التي كانت تُعطي إيهاماً بدفع الحل السياسي إلى الأمام فيما كان يراوح مكانه بفعل التدخلات الغربية.
من هنا، فإن الموقف الثابت من تشكيل اللجنة الدستورية عبر التوافق بين السوريين، وبأنه لا علاقة للأمم المتحدة باختيار أسماء المشاركين فيها، وبأن دور الأمم المتحدة وموظفيها لا ينبغي أن يتجاوز حدود تسهيل وتيسير الاتفاق بين السوريين الذين يعود القرار لهم وحدهم، هو موقف ينطلق من ضرورة أن تكون تشكيلة اللجنة وآليات عملها تسمح بالوصول إلى تفاهمات جدية بين الأطراف السورية، وعدم الدخول إلى هذه المفاوضات بعقلية أنّ ما لم يتحقق على الأرض من مغانم سوف نحققه على طاولة المفاوضات. حيث إن واقع التوازنات الدولية اليوم تؤكد أنه لا يحق لأي طرف، التعاطي مع اللجنة الدستورية من موقع الغالب والمغلوب، فكما أكدنا سابقاً: إن التعديلات الدستورية ليست مجالاً لتمكين النظام، ولا مجالاً لتمكين المعارضة من استلام السلطة، إنما هي أداة وضع القضية في إطارها الصحيح، أي: تمكين الشعب السوري من تقرير مصيره.