تغيير جذري متزامن وحماية العدالة الناشئة
التجارب الاشتراكية السابقة، وأكثرها تبلوراً تجربة الاتحاد السوفييتي، مليئة بالدروس التاريخية لأية تجربة قادمة. وأحد هذه الدروس: نتائج التحسن الملموس في الحياة الاقتصادية للناس على المزاج، وعلاقة الناس بالنظام الذي أقيم، وبالتالي على مبادرتها وأدائها ودورها السياسي اللاحق. هذا الجانب الملموس له أهمية سياسية في مصير النظام البديل، وتطويره وتعميقه وحمايته من كوابح موضوعية تنشأ فيه، بمعزلٍ عن الأداء السياسي مثلاً.
التحسن الاقتصادي والفعالية السياسية، التحسن الاقتصادي ومعه الاستقرار السياسي (الأمن، السكن، الرواتب والقدرة الشرائية...) سينتج على المدى الزمني رضا نسبياً، ما سيخفض بدوره حدة الفعالية السياسية للمتضررين، أي: أن كتلة كبيرة من الناس يحركها الظرف المادي كالنقمة والمعاناة، سينخفض نشاطها السياسي في حال تلقّت هي هذا التحول في ظروف الحياة بشكل سلبي، أي: لم ترتبط مباشرة في هذا التحول، ولم يكن الرابط بين دورها وبين التحسن بهذا الوضوح والثبات. هذا الدور هو إشراكها المباشر في التحول، وليس فقط في «تنفيذ المشروع» كمتلقي.
ومع الوقت فإن الجيل اللاحق سيعيش انخفاضاً للفعالية أكثر من الذي سبقه كونه سيأتي على واقع سيكون بالنسبة له كمعطى قبليّ، أي: لا يملك معياراً تجريبياً معاشاً للتحول الذي أنتج الظرف الاقتصادي الحالي. وسيكون ليس فقط أقل فعالية سياسية بل أكثر قابلية لاستبدال النظام الأعدل اقتصادياً بالنظام الأسبق الذي كان مصدر البؤس والفروقات الطبقية، إذا ما واجه عدم رضا معين. أليست هذه اللوحة قريبة مما عاشته الأجيال المتلاحقة في الاتحاد السوفييتي والصين اليوم مثلاً، حيث نشهد انخفاض فعالية سياسية واضحة عند كل جيل جديد، وغياب معايير لديها في المقارنة بين الأنظمة الاقتصادية تاريخياً.
التصدي للمستوى
المعنوي والمادي
إذا اعتبرنا أنَّ التجارب الاشتراكية السابقة تصدت للجانب الاقتصادي وفتحت المجال لتطور الجانب المعنوي والمبادرة الإبداعية، إلا أن التطور اللاحق أثبت أن فراغاً ما قد نشأ على المستوى المعنوي. وهو ما قد يجد أساسه في أنّ التجربة الاشتراكية بعد الردة الرجعية في النصف الثاني من القرن الماضي لم تتطور لكي تؤسس لإشراك فعلي للجماهير في إدارة المجتمع، وهو إذا ما ترافق مع سياسة ثقافية تربوية قيميّة واضحة كان من شأنه أن يحل المعاناة المعنوية التي تعتبر بالنهاية تشكيل أهداف ومعانٍ حياتية متلائمة مع التحول في المجتمع الجديد وإحداثياته، أي: تحويل قوة العمل الحرة والمتفتحة إلى مجالات إبداعية سياسية وفكرية جديدة، وبالتالي، الإبقاء على رابط علني وملموس بين أي نوع من عدم الرضا الجديد الذي قد ينشأ مع فعالية الجماهير السياسية، ودورها المباشر في قرارات المجتمع. وهذا ليس بالجديد، بل هو تحقيق للمقولات اللينينية حول أن الاشتراكية هي إشراك الجماهير في إدارة الدولة، وتوظيف الطاقات الإبداعية في هذا الميدان.
أمّا حسب إحداثيات اليوم، فإن أية تجربة اشتراكية قادمة ليس عليها أن تفتح الطريق لبروز التناقضات المعنوية ومن ثم التفكير في حلها، بل إنها ترث هذه التناقضات من المرحلة التاريخية لسيادة الليبرالية والمعاناة المعنوية التي تركتها، وفي جوهرها أزمة الاغتراب الفردي والاجتماعي وتبعاته النفسية وآلامها كافتقاد الحياة لأية قيمة ومعنى وأفق.
خلق أسس تحصين وتطوير النظام من ذاته
الطاقة الكامنة على مستوى المعاناة يجب أن تتحول إلى أسس متينة لنقلة نوعية، ليس فقط على مستوى التنظيم الجديد للاقتصاد، بل على مستوى تنظيم المجتمع ككل، وآليات مشاركة القوى الاجتماعية في المجتمع الجديد وإدراته، ما يخلق المجال التطبيقي للتعبير عن الحاجات المعنوية التي طالما خُنقت وتشوهت في ظل الليبرالية. وهذا لن يكون معزولاً عن تصورات ماركس المبكرة عن تخفيض وقت العمل الضروري من جهة، مما سيعطي وقتاً لتطوير إمكانات جديدة أمام القوى المنتجة، إضافة إلى تصوراته حول التنويع في ميادين العمل وتقليص تقسيم العمل، مما سيلغي الطابع الروتيني للعمل، خصوصاً في ظلّ دخول توظيف التكنولوجيا الحديثة والذكية في مجالات العمل الضرورية (الجسدية بشكل أساس)، هذا التطور الذي أصبحت له أرضية جاهزة في العالم اليوم. وهذا يتطلب إنشاء جديداً للنظام التعليمي القادر على تخديم المجتمع الجديد المتعدد الممارسة.
ترابط وتزامن عدالة الثروة وعدالة إدارة المجتمع، أي: التصدي للحاجات المادية والمعنوية في آنٍ، سيمركز قوة العمل الاجتماعية، التي تكمن اليوم على شكل معاناة وعدم رضا، في تطوير النظام الاجتماعي من جهة، من خلال الربط الواعي والصريح فردياً وعلى مستوى هيئات الإدارة، ومن جهة أخرى سيخلق أرضية ذاتية التحصين للنظام الجديد، حيث إن الدور الاجتماعي الذي سيتم خلقه، أي: الإنسان المنتج السياسي المبدع على عكس العامل المأجور (وإن كان يعيش مستوى معيناً من العدالة)، هذا الدور هو الذي سيخلق تفكيراً وقيماً تدعم تطوير النظام لا الركون والرضا، حتى لو جاءت الأجيال القادمة ستكون في بنية وعيها تنتمي إلى نظام من العلاقات التي ستكون أكثر صعوبة في الانقلاب عليها، كونها ديمقراطية واسعة وعميقة، أي: أن هذه الديمقراطية تعاش يومياً لا في الرقابة المجردة ونظام الهيئات والمجالس التي تتطلب فترات زمنية طويلة لكي يتم تقييمها واستبدالها. ومن الضروري التفكير بدور تكنولوجيا التواصل الحديثة من أجل تدعيم جهاز الرقابة والإدارة الاجتماعيين، حيث يضيق الهامش الزمني ما بين الحدث والوعي، وبالتالي اتخاذ الموقف منه، أي: دور التواصل المتزامن في تدعيم اليقظة الشعبية، وهو ما يحتاج لبحثٍ منفردٍ حوله.