شمس الأفول الأمريكي لا تغطى بغربال
لا يزال المنطق السائد في التعاطي مع التغيرات الحاصلة في الوزن النوعي للولايات المتحدة الأمريكية ميالاً في اتجاه رفض حتى أكثر الحقائق سطوعاً، والتي تشير بوضوح إلى انقلاب الموازين الدولية تدريجياً لغير المصلحة الأمريكية. فما الذي يمكن سرده اليوم في سياق تحليل عملية التراجع هذه؟
يتعاظم سيل المحللين الاقتصاديين المتنبئين بقرب انفجار أزمة مالية عالمية جديدة، منهم من يتحدث عن انفجارها في نهاية العام الجاري، ومنهم من يتوقع عام 2019 موعداً لها، أما أبعد التوقعات فلا تتجاوز عام 2020، أي: بعد عامين من الآن. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تخوض هذه الأزمة بموازين اليوم، وبالنظر إلى مجموعة أخرى من المؤشرات، يحق لنا القول: إن مسألة تداعي الوزن النوعي للولايات المتحدة في ظل تضيّق الخيارات أمامها هي مسألة باتت في المدى المنظور.
الأزمة آتية والمشهد اختلف
تقع واشنطن اليوم في مشهد بالغ التعقيد، وما إن يُفتح الباب أمامها لحلّ إحدى المسائل العالقة لديها، حتى تنفتح معه أبواب لتعقيدات أخرى. وينسحب هذا الكلام على وضع الدولار والنفط عالمياً، والنظام المالي العالمي، والعقوبات الاقتصادية، وسباق التسلح الجاري، والتجارة الدولية، فضلاً عن تعقيدات مشهد الانقسام الداخلي في الإدارة الأمريكية.
عندما خاضت الولايات المتحدة المواجهة الاستراتيجية في القرن العشرين، خاضتها في وجه عملاق عسكري هو الاتحاد السوفييتي، إلّا أنّ تصدّرها كعملاقٍ اقتصادي، سمح لها بحسم موازين القوى لمصلحتها في نهاية المطاف. أما في ظل التوازنات الدولية اليوم، تضطر واشنطن لخوض المواجهة ذاتها، لكن باختلافٍ جذري في المشهد، حيث لا تخوضها في وجه روسيا التي تمثل عملاقاً عسكرياً في هذا السياق، بل وفي وجه الصين– القوة الاقتصادية النامية رقم واحد عالمياً.
يسمح هذا الواقع الجديد بتقييد منطق الاستفراد الأمريكي الذي ساد في المرحلة السابقة، ويضع الخيارات الأمريكية في حالة ضيق لا مثيل لها، مما دفع واشنطن في كثيرٍ من النواحي أن تجد نفسها تغادر مساحات واسعة – عسكرياً وسياسياً واقتصادياً- كانت تغطيها سابقاً معتمدة على تسيّدها للعالم من جهة، وعلى الضعف في خلق البدائل على الصعيد العالمي ثانياً.
الحلفاء التقليديون
(ينحرفون» عن المسار
كذلك الحال، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على خوض هذه المواجهة بالاعتماد على ما أمكن تطويعه سابقاً من دولٍ حليفة لها. إذ يقع على رأس هذه التغيرات التبدل الجاري في العلاقات الأمريكية الأوروبية، فقد فتحت التطورات الدولية بما في ذلك تصاعد القطب الروسي الصيني خيارات واسعة أمام الطرف الأوروبي الذي باتت تشكل العلاقات التي تربطه مع واشنطن خسارة وعبئاً عليه أكثر مما هي سند ودعم.
وهنا، لا نقول إن أوروبا قد وصلت إلى حالة من القطع النهائي مع الولايات المتحدة، ولكن الحديث يدور عن تصاعد عملية التفكك في الحلف الأمريكي الأوروبي الذي شكّل عِماداً قوياً للتدخلات الأمريكية السافرة بأشكالها المتنوعة في عدد من مناطق العالم. وعلى هذا النحو، ينسحب التحليل على معظم الحلفاء التقليديين لواشنطن، التي لم يعد لديها ترف التفكير في إرضاء الحلفاء حسب النمط السابق، بل خلافاً لذلك، تشرع في التفكير بهؤلاء الحلفاء بوصفهم مادة للاستغلال ولإبطاء عملية تراجعها، حتى لو تعارض ذلك مع مصلحة الحلفاء أنفسهم، بل حتى وإن وصلت هذه العملية في بعض الحالات إلى مرحلة التهديد الوجودي لهؤلاء الحلفاء.
الانقسام في (البيت الداخلي»
سبق أن أكّدنا في أكثر من مكان: أن المتابع لمراكز البحث الأمريكية المرتبطة بالقوى المتصارعة داخل الإدارة يمكنه أن يلحظ بسهولة، أن معظم هذه التحليلات تتقاطع في نقطة غالباً ما تتجاهلها وسائل الإعلام في المنطقة، وهي تحديداً الاعتراف الضمني بتراجع الوزن النوعي للولايات المتحدة عالمياً، غير أن الصراع يدور حول أولويات هذا التراجع، وفي درجةٍ ما حول الطريقة التي سيتم على أساسها التراجع.
وعلى هذا الأساس، ثمة تيار مالي بحت يمثل رأس المال المالي العالمي الإجرامي، ورقبة هذا التيار موضوعة تماماً تحت سكين الضربات التي توجهها القوى الدولية الصاعدة صوب الدولار الأمريكي، ولهذا، فإن هذا (التيار الفاشي» المُهدَّد وجودياً يرى ضرورة توسيع نطاق الاستفزازات العسكرية وخلق بؤر التوتر وتأجيجها على التخوم الروسية والصينية. في المقابل، هنالك تيار أقرب في بنيته الاقتصادية للإنتاج الصناعي، والضربات التي تقوم بها القوى الصاعدة ضد الدولار الأمريكي تكبده خسائر فادحة جداً، لكنها لا تهدده وجودياً، وهو ما نصطلح عليه (التيار العقلاني»، ذلك لأنه وإن تقاطع مع الأول في الاعتراف بالتراجع الأمريكي عالمياً، إلا أنه يفضّل القيام بعملية تراجع منظّم تضمن بقاء الدولة الأمريكية بعيدة عن انعكاسات المضي في خيار المواجهة المفتوحة، التي لم تعد وفقاً لموازين اليوم تميل لمصلحة الحلف الأمريكي، وذلك لا يمنع (التيار العقلاني» من الاستفادة من زخم الفوضى الفاشية التي يقوم بها التيار الأول.
أما الجديد في هذا السياق، فهو أن القول بأننا أمام أزمة مالية عالمية جديدة، ستضطر الولايات المتحدة فيها أن تتعرض لخسائر ما، سوف يفاقم حالة الانقسام في (البيت الأمريكي»، حيث يجري الصراع حول أيّ من التيارين سوف يتكبد عناء هذه الخسائر؟
الولايات المتحدة ليست استثناء
يصعب على قصيري النظر في دراسة واقع صعود وهبوط الإمبراطوريات فهم أن الإمبراطورية هي ظاهرة تاريخية، أي: أنّ وجودها مرتبط بجملة من العوامل التي بمجرد زوالها يزول الأساس الذي بُنيَت عليه الإمبراطورية وتدخل بالتالي في طور الأفول، وهو ما حدث عبر التاريخ، فواشنطن التي خبرت مرحلة أفول الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، إنما تشهد اليوم عوامل أفولها في ظل صعود قوى جديدة في المشهد الدولي.