المرسوم 16: كيف ننظم زفرة المظلوم؟
هل بقي سوري لم يسمع بمعركة المرسوم (16)؟ معركة استخدمت فيها مختلف صنوف الأسلحة الفيسبوكية...
حيث تم إظهار القضية كأنها معركة، تم تصوير المواجهة التي حدثت وكأنها (نضالٌ» شرس عنيد، اصطف فيه من يحاولون أن يبدون أنهم (أنصار سورية العلمانية» ضد من اتهموا بأنهم (يريدون أخونة سورية وإعادتها قروناً إلى الوراء»؛ وكأنما العلمانية في سورية قد بلغت حداً تضاهي فيه العالم قاطبة!
تم تصعيد نيران المعركة المفتعلة من خلال النشر الواسع لمقاطع فيديو (قديمة وحديثة ولا جديد فيها)، لشيخين أو ثلاثة شيوخ ممن يقولون ويشرحون ويعلمون أموراً دينية اجتماعية تتعلق بالحجاب والاختلاط والمرأة وتعدد الزوجات وإلى ما هنالك– وهي أمور لطالما قيلت بالطريقة نفسها، بدرجة أشد أو أخف قليلاً، لكنها قيلت وتقال كل يوم، ولكن تم توظيفها هذه المرة لتوتير قسم ممن يتم إظهاره على أنه (الجماهير» المناضلة (ضد التخلف)، في مقابل القسم الآخر الذي تجري محاولة تسويقه على أنه الرافض لمحو هويته الدينية وحقوقه الاعتقادية.
المحصلة، أنّ (الجماهير المنهوبة المقموعة» تم تجييشها... ضد بعضها البعض. ولكن ماذا عن موقف النظام السياسي؟ مع أي جمهور يقف؟ جرى التسويق بأن النظام السياسي يقف مع (جماهير العلمانية»، الإيحاء بذلك واضح، فأحد المسؤولين وهو رجل دين أعلن صراحة أنه مع سورية علمانية، كما أنّ المرسوم نفسه يحارب الوهابية والتطرف ويضبط بقبضة من حديد مجمل النشاط الديني جاعلاً إياه تحت رقابة كاملة من أجهزة الدولة. وبكل تأكيد أيضاً فإنّ النظام السياسي يقف مع (الجماهير الرافضة للعلمانية»، فالمرسوم يمنح وزارة الأوقاف حق التدخل والرقابة على كل أجهزة الحكومة، عبر إرسال المفتين إلى شتى مجالات الحياة بما في ذلك الفن والإعلام والرقابة على المطبوعات، كما أنّه يعزز من دور وتأثير دور العبادة ومعاهد التعليم الشرعي ومعاهد تعليم القرآن وإلخ. ليس ذلك غريباً؛ فالنظام السياسي يقف إلى جانب الجماهير، كل الجماهير. المهم في المسألة كلها أن فئة الـ10% الناهبين، لم يتركوا الجماهير لتناضل ضد بعضها البعض دون مساعدة ودون مراقبة حثيثة تضع حداً لمن يبالغ في نقل الصراع خارج حدود إلهاء البطون الجائعة.
مقاربة أولية
هل يتمحور الموضوع بأكمله حول (إلهاء البطون الجائعة)؟ لا نظن ذلك؛ فهذه قد تكون إحدى مفردات المسألة، لكن لها مفردات أخرى بالتأكيد، وعلى رأسها منطق معالجة ظواهر التطرف والطائفية...
بات من المستحيل على أحد أن يرفض واقع وجود هذه الظواهر، بل وأن لها عمقاً غير قليل، وأنّ معالجتها ليست بالأمر الهيّن إطلاقاً، ولكن كيف عالج المرسوم هذه الظواهر؟
من يقرأ المرسوم يجد في فقرات عديدة منه محاولة لـ(احتواء الجماهير المتدينة) عبر التركيز على أهمية الدِّين والكتب المقدسة والمؤسسات الدينية، وكذلك على دور الدِّين في الثقافة العامة للدولة والمجتمع وإلى ما هنالك، وذلك بالتوازي مع إجراءات مشددة ضد مظاهر التطرف، الوهابي خاصة. تتمثل هذه الإجراءات بمركزة النشاط الديني في يد الدولة، ومراقبة أي نشاط ديني عبر (المفتين) ومن خلفهم وزارة الأوقاف، ومن خلفها الحكومة والسلطة، وتشمل الرقابة أيَّ موضعٍ من مواضع الحياة يمكن للدِّين أن يقترب منه، أو يكون مفردة من مفرداته؛ ضمناً الإعلام والفن والتعليم والمؤسسات المعنية بهذه الشؤون.
بكلام آخر، فإنّ المرسوم يعمل على احتواء الجماهير المتدينة من جهة عبر التأكيد، ليس على احترام الدولة للشؤون الدينية فحسب، بل وتشجيعها للتدِّين، ومن الجهة الأخرى فإنه يعمل على ضبط الممارسة الدينية عبر مركزتها الشديدة، وبشكل خاص على (المستوى الفوقي)؛ أي على مستوى الوعي، عملاً بمبدأ أن (إصلاح» و(ضبط» الوعي العام سيؤدي إلى (إصلاح» و(ضبط» الواقع، وفي هذا المبدأ بالذات تكمن المصيبة!
إنّ علاج ظواهر الطائفية والتطرف يتطلب علاج جذورها العميقة، لا أسبابها الثانوية. ومنطق العلاج الموجود في المرسوم (16)، يتعامل مع هذه الظواهر بوصفها نتاجاً لأفكار متطرفة، وكتّابٍ مُتطرفين، ممن وراء الحدود، وحتى وراء الأزمنة؛ كابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما... لكن السؤال الذي لا يجيب عنه المرسوم، وهو السؤال الأهم: في أي ظروف يمكن للأفكار المتطرفة أن تنتشر؟ فمحاولات حجب ومنع كتب بعينها وأفكار بعينها، ضمن عالمنا المعاصر وبوجود الإنترنت والفضائيات ليس أكثر من قبضٍ للريح، بل وعلى العكس من ذلك، فإنّ عمليات الحجب باتت فاتحاً للشهية بالنسبة لكثيرين، فكل ما تحجبه (السلطة»، أيّة سلطة، يكتسب من حيث يملك أو لا يملك، قيمةً أخلاقيةً ما في نظر أعداد كبيرة من الناس، وخاصة في نظر الشباب، وتفسير ذلك في ظروف ذلك الشباب...
واستكمالاً لسؤال الظروف التي تسمح بانتشار التطرف، لا بد من الوقوف عند عاملين متداخلين وحاسمين:
أولاً: الوضع الاقتصادي الاجتماعي- السياسي
البيئة المناسبة لانتشار التطرف، هي بيئة الفقر المستديم الذي لا فكاك منه، والذي يغلق في وجه الشباب أي أمل بحياة كريمة (في هذه الدنيا)، ويفتح أبواب الخيال لحياة كريمة (في الآخرة). ولكن البيئة تصبح أكثر جهوزية حين يترافق الفقر مع التهميش، والمهمشون هم العاطلون عن العمل لفترات طويلة، أو الذين يتنقلون مرغمين بين أعمال غير مستقرة وبأجور زهيدة، ويبقون على قيد الحياة بقدرة قادر كما يقال. وإذا ترافق الفقر والتهميش مع حرمان الناس من حقّهم بالصراخ ألماً من واقعهم، عبر السطوة الأمنية والانخفاض المريع في مستوى الحريات الديمقراطية، فإننا نكون قد أمنّا البيئة المثالية للتطرف... هذا بالضبط هو واقع الحال في سورية.
ثانياً: الهوية الوطنية ومنظومات الأمان الاجتماعي
إنّ بروز مشكلات تتعلق بالتطرف، وبالطائفية خاصة، تشير إلى أنّ الهوية الوطنية للبلد المعني قد تعرضت لهزة قوية وعميقة، بات الناس معها يلتجئون إلى انتماءاتهم الصغرى السابقة للانتماء الوطني، كالانتماء للعشيرة أو الطائفة أو العائلة. ينتج ذلك عن فقدان أو تدني مستوى منظومات الأمان الاجتماعي التي من المفترض أن تقدمها الدولة، نقصد بذلك منظومات الأمان بكل معانيها، الاقتصادية والاجتماعية وضمناً التعليمية والخدمات الطبية، وأيضاً: الأمان ضد المتسلطين والمتنفذين... فحين يجد سوريون كثر أنفسهم عُزَّلاً في مواجهة الواقع، وجهاز الدولة لا يحميهم بل يغض الطرف عن نهبهم وقمعهم ويساهم بذلك مساهمة نشطة عبر رفع الدعم والخصخصة وتوزيع الثروة الجائر ونشاط الأجهزة الأمنية، فإنّ الناس ستبحث عن وسائل للحماية، كأن يلجأ الفرد إلى متنفذٍ ما ليحتمي به إنْ استطاع لذلك سبيلاً، ولكن في الحالة العامة يجري اللجوء للعائلة والعشيرة والطائفة والدين...
أي: أنّ محاولات حل مشكلات التطرف والطائفية عبر إجراءات فوقية كمثل الموجودة في المرسوم 16، رغم أن بعضها قد يكون ضرورياً، لن تكون نتيجته عدم الوصول إلى حل فقط، بل ستؤدي إلى تعقيدٍ إضافي للمشكلة، لأنّ الموضوع ببساطة سيتحول إلى ما يلي: الناس المخنوقة من الوضع الاقتصادي الاجتماعي الأمني، والتي يزفر جزء منها همه للسماء عبر الممارسة الدينية، سيجري الآن تنظيم ومراقبة عملية زفيرهم تلك! الأمر الذي سيخلق مزيداً من التطرف.
هنالك جانب آخر في المرسوم يحتاج إلى معالجة منفصلة، ولكن لا بد من الإشارة إليه أولياً: ما العلاقة بين هذا المرسوم وبين استثمارات إعادة الإعمار، خاصة في الإطار العقاري؛ إذ من المعروف أن حجم الأوقاف في بلدنا هو حجم مهول بالمعنى العقاري. وما الآليات (القانونية) التي يتضمنها المرسوم بما يخص استثمار تلك الملكيات؟ وهل من طريقة لرقابة شعبية على كيفية استخدام تلك الأملاك؟ وهل يتيح المرسوم مجالاً إضافياً لإبعاد تلك الملكيات عن رقابة الناس؟