«بعبع» التقسيم...  لم يعد مخيفاً

«بعبع» التقسيم... لم يعد مخيفاً

مع استمرار مسار الحل السياسي للأزمة السورية، تظهر عند كلّ منعطف محاولات لتغيير مسار الحل، أو على الأقل عرقلته بغرض تأخيره. فكرة التقسيم واحدة من الأدوات التي مازالت العديد من القوى السياسية والدولية تلوّح بها بين الفينة والأخرى، وذلك بشكلّ سرّي أو علني.

فورقة المبادئ التي صدرت عما سميّ بالـ «المجموعة المصغرة من أجل سورية» تسعى في فحواها إلى تفادي معركة إدلب، وتثبيت الأمر الواقع كما هو، ولا سيّما في الشمال الشرقي السوري، بمعنى ترك الأدوات المهيأة للتقسيم على حالها، من خلال ما تمّ اللعب عليه من فوالق قومية وطائفية وإلى ما هنالك من الصراعات البينية ومحاولة توسيعها قدر الإمكان. كلّ ذلك يتم الحديث عنه بالتوازي مع الحديث عن ضرورة تطبيق القرار 2254 الذي تتبناه هذه القوى قولاً فقط، في حين أنها تُمنّي النفس بعدم تطبيقه وتسعى لذلك، من خلال هذه الالاعيب التي باتت واضحة ومكشوفة بالنسبة للسوريين.

وحتى لو أردنا أن نغضّ النظر عن مضمون هذه الورقة، فإنّ مجرد صدور هذه الورقة يُعد أداة لشرعنة النفوذ الإقليمي والدولي في سورية من خلال ابتداع حلولٍ مُشوَّهة، تسمح بالتأسيس لفكرة التقسيم، وتسمح لقاصري النظر بالتعويل عليها، وترويجها إعلامياً إلى الحد الذي يمكن من خلاله التأثير على الرأي العام الشعبي.
«بعبع» التقسيم هذا الذي يُهلّل البعض له سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ويتخذون مثال «سايكس بيكو» كمبررٍ موضوعي لاحتمالية حدوثه، ما زالوا حتى اليوم على ما يبدو عاجزين أو متعاجزين عن رؤية الظرف الموضوعي الحالي الذي يجعل من «بعبع» التقسيم هذا مجرد فزّاعة رثّة لا قيمة للحديث عنها، أو التخويف منها في عالمٍ اليوم. ففكرة التقسيم تتناقض شكلاً ومضموناً ليس فقط مع اتجاه التطور الموضوعي التاريخي الذي يرسّخ قانون التعاون القائم على أساس تبادل المنفعة بين الدول، ولا سيّما تلك المنهوبة أي «دول الأطراف» وحسب، بل يتناقض أيضاً مع توجهات القوى الصاعدة التي تسعى في سياق صراعها مع المنظومة الغربية الاستعمارية إلى إيجاد أنماط جديدة من العلاقات تكون بعيدة إلى حدّ ما عن نمط العلاقات الغربي، القائم على أساس أكبر استغلال وأكبر عمليات «شفط» بالاستعانة بالعديد من الأدوات، على رأسها التقسيم من مبدأ «فرّق تسد».
وعلى اعتبار أن المعطى الدولي واتجاه التطور العالمي هو المحدّد الأساس في تحليل أي حدث يجري في بلداننا، فإن فكرة التقسيم ضمن هذا السياق متناقضة حتى مع مصالح الشعب السوري، لأنه وإن افترضنا أن سيناريو التقسيم قد حصل، فلنتخيل ماذا بعد... أول ما سيتبادر للذهن هو السؤال التالي: على أي أساس سيتم هذا التقسيم؟ والجواب بدهياً سيكون إما على أساس قومي كما تحاول بعض القوى تعزيزه، مدعومة من الغرب، وذلك عن طريق إقصاء الكرد من العملية السياسية وتوريطهم في تحالفات غربية وصراعات بينية، أو على أساس طائفي. ولكن المشكلة ليست في التقسيم بحدّ ذاته فقط بقدر ما سيخلفه هذا الفعل من تداعيات تتجلى بتهيئة البيئة المناسبة لحدوث حروب ومجازر وعمليات نزوح..
ولكن ما الذي يجعلنا نستبعد هذا الخيار رغم الحديث المتكرر عنه؟ بالعودة إلى التقسيم الأخير الذي أصاب منطقتنا أي «سايكس بيكو» نجد أنه حدث كنتاج لمرحلة استعمارية محددة جرى فيها تغّير كبير في موازين القوى الدولية، حيث كانت القوى الاستعمارية القديمة في طور انحسار، والجديدة في تقدّم. فجرى تقاسم للتركة العثمانية بين القوتين الأبرز دولياً آنذاك: فرنسا وبريطانيا. ولكن موازين القوى اليوم تتغير أيضاً فما الجديد؟
تغير موازين القوى الدولي اليوم ليس شبيهاً بالتغير الذي حدث في أوائل القرن الماضي، فالتغير اليوم يجري لصالح قوى هي في الأصل منهوبة ومستعمرة من قبل القوى الإمبريالية. ولذلك فلا يمكن بحال من الأحوال المقارنة بينهما. وبالتالي ففكرة التقسيم التي هي فكرة استعمارية المنشأ تكون بذلك وبهذا الظرف فاقدة لكل مبررات وجودها الموضوعية. والحديث عنها ليس سوى هلوسة الفضاء السياسي القديم المتماوت.
فإذا أردنا أن نبحث عن المبرر الموضوعي لوجود فكرة التقسيم فسنجده مرتبطاً إلى حدٍّ بعيد بمستوى تعمّق الأزمة الرأسمالية. فالرأسمالية مضطرة بحكم تناقضاتها البنيوية إلى اللجوء إلى العديد من الأدوات التي تخفف من وطأة وحدّة هذه التناقضات، فلم تترك وسيلة إلّا واستخدمتها في ذلك، مستفيدة بالطبع من نموذج الرأسمالية المشوّهة التي تحكم بلدان المنطقة. فمن التبادل اللامتكافئ والسياسات النيوليبرالية، إلى الفاشية الجديدة وأهم أدواتها «داعش»، إلى استثمار الصراعات البينية تهيئة لفكرة التقسيم. ولكن الأزمة اليوم وصلت إلى الحد الذي استنفذت فيه هذه الأدوات مهامها، وأصبح الخلاص النهائي من الأزمة مرتبطاً بشكلٍ وثيق بالخلاص من الرأسمالية نفسها! وهذا ما تسعى القوى الإمبريالية إلى تأخيره قدر الإمكان عبر سلسلة من قنابل الدخان المتتالية، التي وإن أَخّرت عملية الوصول إلى حل فإنها لن تستطيع منعه بحال من الأحوال.
وبالتالي، إن فكرة التقسيم كانت إحدى المفاعيل السياسية للأزمة الرأسمالية العظمى، وهي انعكاس لاستراتيجية الفوضى الخلّاقة، ففي ظلّ الفوضى يحاول المركز الغربي الاستفادة من قواه العسكرية لتمرير مشروع التقسيم. وفي ظل عجز هذا المركز اليوم عن استخدام قواه العسكرية المباشرة، فإنه يقوم بالاستعاضة عن ذلك بالحروب البينية القائمة على أساس ثنائيات وهمية، مدَعِّماً إياها بضخ ٍ كبير على وسائل الإعلام، أي ما يسمى بالـ «الحرب البسكروتونية».
في السياق نفسه يصبح واضحاً لدينا سبب التصدعات المتتالية التي تحدث في أوروبا، تصدعات على مستوى الاتحاد الاوربي، وداخل العديد من البلدان الأوروبية ذاتها، وبالمقابل نجد أن القوى الصاعدة وعلى العكس من الانقسام، فإنها تتوحد أكثر، فالتعاون الروسي الصيني، والتركي الروسي والإيراني ولا سيّما في المجالات الاقتصادية؛ مشروع طريق الحرير وغيرها، خير دليل على أن المأزوم يتصدع والمنتصر يزداد تماسكاً.
بعد تثبيت جملة الحقائق السابقة، يتبين لنا: أن محاولات تمرير فكرة التقسيم، وإن حصلت بطرق غير مباشرة وتحت أيّ مسمىً كان، فهي لن تبقى سوى «فكرة» لم يعد لها أي أساس مادي للتحقق في ظل الميزان الدولي الجديد، ولكن هذا الميزان لوحده لن يكون كافياً لإبعاد خطر التقسيم، إذا لم يتم العمل على استثماره بشكل يسمح بالتطبيق الفعلي للقرار 2254 الذي ينص في بدايته على وحدة واستقرار الدولة السورية.

آخر تعديل على الإثنين, 17 أيلول/سبتمبر 2018 14:45