ليرة تركية.. رسائل عالمية وسورية!
أصبحت ما سمي بـ«المعجزة الاقتصادية التركية» وعلى مدى سنوات، نموذجاً يحتذى به من قبل الليبراليين السوريين في النظام والمعارضة، كل بما يناسبه، أما ليبراليو النظام فذهبوا إلى علاقات مفتوحة مع تركيا، وكلنا يتذكر مشهد الوزراء السوريين الذين أزالوا حاجز المعبر الحدودي مع تركيا، في إشارة رمزية لها دلالاتها التي لا تحصى، أما منظرو المعارضة الليبرالية فقد أتخموا أسماعنا بالحديث عن منجزات الديمقراطية التركية.
وأمام كل تنبيه من خطر السياسات الليبرالية الاقتصادية في بلادنا كان هؤلاء وأولئك، يرفعون في وجهنا النموذج التركي، دليلاً على صحة توجهاتهم، استناداً إلى قراءة سكونية جامدة لا تمت إلى علم الاجتماع– حتى الليبرالي منه– بصلة، كما هو حالهم حتى الآن طبعاً.
ما يجري للاقتصاد التركي كله، هذه الأيام، وليس- الليرة فقط- كما يتفاصح إعلام التجهيل- جاء بمثابة البرهان القاطع، بأن تدفق الاستثمارات الغربية على دولة ما، وتوفر السيولة لا يعني أن هذه الدولة أصبحت عملاقاً اقتصادياً، وإن جعجعة «الإسلام المعتدل» مهما تجمّلت، لا تأتي إلا بطحين، يحتاج الى ألف غربال وغربال حتى يصبح صالحاً للاستهلاك البشري.
باختصار: إن الأزمة الرأسمالية العظمى، تفتك بتلك الاقتصاديات التابعة، وأن ثقب الأزمة الأسود سيبتلع كل تلك الثروة الوهمية التي تدفقت على تركيا في ظل دور وظيفي محدد كان مرسوماً لها، وإن دينامية الأزمة ستتقيأ كل تلك الثروة، على شكل فوضى، وأزمات تبدأ بالعملة المحلية ولا تنتهي عندها، دون أن ينفع دعاء الليبراليين المتأسلمين، ولا تنظيرات الليبراليين المتعلمنين.
أمام تركيا خياران فقط:
إما الاستدارة شرقاً، بخطوات ملموسة وسريعة، والخروج عن منظومة الدولار، وتشكل هذه الاستدارة فرصة ذهبية لتركيا، لاسيّما وأن بعض العقلاء في الدولة التركيا في بدايات تدفق الرساميل حاولوا أن يوظفوا بعض تلك الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي، لا ندري ما الذي بقي منها بعد أن أزيح أصحاب ذاك المشروع عن المشهد على يد «الإسلام المعتدل»، بمعنى آخر: الاستفادة من ميزان القوى الدولي الجديد، بالتكامل مع الثروة الوطنية التركيا الحقيقية.
-أو دوامة أزمات لا تنتهي، سيكون أول ضحاياها الشعب التركي، ولكن ستأخذ في طريقها أيضاً كل النخبة السياسية التركيا التقليدية التي تنتمي إلى الفضاء السياسي الليبرالي، وتنبش حتى عظام «أرطغرل» في قبره.
الأزمة المركبة
أزمة الليرة التركية، هي جانب من أزمة مركبة سياسية واقتصادية ومالية، بين الحليفين التقليديين، فالخلافات السياسية بين البلدين ليست جديدة، بل بدأت وتتعمق منذ ما يقارب العامين، كانت سمتها الأساسية تعرض تركيا المستمر للابتزاز الأمريكي، وصولاً إلى دعم انقلاب عسكري على الحليف، بعد أن حاولت تركيا أن تستحوذ على هامش من الحركة في الملفات الإقليمية، الأمر الذي اصطدم برغبة واشنطن التي تحاول التحكم بكل الملفات، وضبط إيقاع حركة الحلفاء وفق إشارات المايسترو الأمريكي حصراً، لأن الأزمة الاقتصادية العالمية تستوجب مركزية شديدة في القرار.
حالة المد والجزر في العلاقات التركية– الأمريكية خلال العامين الماضيين، والتقارب التركي المتدرج مع قوى الشرق الصاعدة، أرغمت واشنطن المأزومة على استباق فتح المعركة الآتية من كل بد، فكل التحضيرات الأمريكية جارية للمواجهة المرتقبة مع الصين وروسيا، وتدرك واشنطن أكثر من غيرها بأنها ستكون معركة كسر عظم، مما يستوجب أمرين:
-إعاقة تمدد نفوذ القوى الصاعدة إلى منطقة مصالح أمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ومنع هذه القوى من ملء الفراغ، في الوقت الذي اضطرت واشنطن إلى التضحية بالحلفاء وتدفعهم دفعاً إلى التمرد بسبب الأزمة.
-محاولة إرباك تركيا، وإشاعة الفوضى، بحيث تصبح عبئاً على القوى الصاعدة.
عزلة واشنطن تتعمق
في سياق اضطرار واشنطن إلى اللجوء إلى خيارات «معاقبة» الحلفاء وتحميلهم وزر الأزمة، تزداد عزلة واشنطن الدولية، حيث تجلى ذلك من خلال ردود أفعال دول العالم المختلفة، بما فيها تلك الحليفة للولايات المتحدة، مواقف عكس الموقف الأمريكي، إذ سارعت بعض هذه الدول إلى إسعاف الليرة التركيا، بمعنى آخر: إن الخطوات التي تقدم عليها واشنطن في مرحلة التراجع، سرعان ما ترتد عليها سلباً، لتصبح هذه الإجراءات مجرد ترقيعات، تخلق تناقضات جديدة.
إدارة الأزمة
بات التخبط الأمريكي على درجة من الوضوح، بحيث لا يصعب حتى على العميان رؤيته، فكل الإجراءات التي تلجأ إليها واشنطن في سياق محاولة إيقاف تراجعها، هي إدارة الأزمة، لا أكثر ولا أقل، طالما أن الأزمة عصية على الحل، ومن هنا فإن كل الرأسماليات التابعة اقتصادياً مهددة بالوصول إلى ما وصلت إليه تركيا، وعليه، فإن المسارعة إلى الانفكاك عن منظومة الدولار، هي الخطوة الأكثر عقلانية وحكمة بالنسبة لهذه الدول، ويكاد يكون الخيار الوحيد أمامها لكي لا تكون كبش فداء الأزمة الرأسمالية العظمى.
تغيرات سياسية إجبارية
إن التغيرات الاضطرارية التي يجب أن تلجأ إليها الرأسماليات التابعة، ستؤدي بالضرورة إلى تغيير البنى السياسية القائمة، فمنظومة التبعية كانت وما زالت هي الحامل، لتنامي دور الشرائح الاجتماعية التابعة في دول الأطراف، وباعتبار أن المنظومة تتفكك، فإن تساقط الحوامل المحلية داخل كل بلد، بات أمراً واقعاً خارج الرغبات والنوايا، وبعبارة أوضح: إن منظومة الاستغلال بطرفيها، المركز الإمبريالي الغربي، وليبراليي بلدان الأطراف وصلت إلى نهايتها بالمعنى التاريخي، لاسيما وأن الليبرالية أصلاً ظاهرة طارئة في بلدان الأطراف، تم تصنيع حواملها المحلية من قبل المركز الإمبريالي، وإذا كان هؤلاء يتساقطون كأحجار الدومينو ويجري التضحية بهم بعد فشل المشروع عالمياً، فإن مصير، الراعي العالمي لن يكون أفضل، على الأقل لأن هؤلاء كانوا أهم أدوات منظومة الهيمنة الأمريكية في بلدانهم، التي كانت تستمد واشنطن قوتها من وجودهم، لدورهم في منظومة التبعية.