السويداء... بين ما يجري على الأرض و«السموم المسيسة»
على الأرض: هجمت داعش على قرى ريف السويداء الشرقي، تقصّدت المذبحة، واختطفت عوائل من أهل القرى... واجه الأهالي الهجمة، لمّوا جراحهم وحاولوا أن يفهموا ما جرى ليسدوا الثغرات. ووصلوا إلى أن يطالبوا بحماية أعلى، وأن يشاركوا في عملية تبعد الخطر عن مناطقهم ومدينتهم، وجمعوا ما يستطيعون لإعانة بعضهم البعض...
الناس تعرف غريمها
رغم وصول الشهداء إلى 300 من أهالي المدينة والقرى، يتعامل الناس المكويون بنار الألم والفقدان، بمسؤولية عالية تجاه تحميل المسؤوليات عما جرى، حيث لا يغيب عنهم أن في عمق باديتهم قاعدة التنف الأمريكية التي تشكل غطاء حماية نارية لقوات داعش المتواجدة في المنطقة، وهذا البعد لا يغيب لأنهم أكثر المعنيين طوال الوقت بإنهاء تواجد هؤلاء في شرقي مناطقهم.
ولكن أهالي القرى يعلمون تمام العلم أن حماية مناطقهم ومدينتهم لا يمكن أن تكون كاملة، إلّا إذا امتلكوا القدرة على إنهاء الدور الخطير لقوى المال والفساد الإجرامية، العابرة لأطراف الصراع، والتي تجد طرقها للتعامل مع داعش وغيرها، والتي كانت تستبيح استخدام هذه المناطق طوال سنوات في الأزمة كطريق تهريب بشر وأموال. وأن هذا لا يمكن أن يتم إلّا بقرار سياسي تفرضه الأغلبية السورية المتضررة من خطر هؤلاء.
سموم إعلامية- سياسية
هذا على الأرض... أما في الواقع الافتراضي، وعلى المنابر الإعلامية، حيث تتسرب مآرب قوى سياسية: دولية وإقليمية ومحلية، فهناك من يريد ويسعى لإيجاد واقع مختلف إثر المصاب، وهناك من يريد استخدام الدماء النقية لأغراض سياسية قذرة.
استقصد منفذو الهجوم، وداعموهم إسالة أكبر قدر من الدماء... لتوليد حالة من الاحتقان والغضب يمكن البناء عليها لاحقاً، واستكملت أطراف أخرى المهمة. حيث بدأت عمليات توتير سادت الخطاب الإعلامي، عبر بوابة تحميل المسؤوليات: ليستخدم هؤلاء كل الدلائل والمسببات، وكل ما شاع من إشاعات، لتوجيه الغضب الشعبي إلى مواضع محددة: إيجاد شقاق بين الناس، والجيش بالدرجة الأولى، ولاحقاً بين أهالي السويداء والنازحين المقيمين فيها منذ عام 2011، وأيضاً بين أهالي المدينة ذاتها.
وكان عماد هذا الشقاق المفتعل الدعوات والأصوات المحلية والإقليمية التي رفعت الخطاب الطائفي إلى مستويات غير مسبوقة، وعرضت وطالبت بالتسليح والحماية الذاتية، وحتى وصل البعض إلى اعتبار أن أحداث السويداء تطرح «المسألة الدرزية» في سورية، كواحدة من قضايا الأقليات القومية والطائفية في سورية والمنطقة.
تجاهل «الفيل القابع في الغرفة»
الملفت أن هؤلاء الساعين إلى البناء على أحداث السويداء، لم يوجهوا أصابع الاتهام إلى طرفين أساسيين: القوة الأمريكية المتواجدة في التنف، والدور الصهيوني ولو حتى كاحتمال!
فمن حيث المنطق السياسي فإن هذين الطرفين، قد خسروا المعركة في المنطقة الجنوبية، ولديهم المصلحة في استخدام أخير لقوات داعش التي تحميها الولايات المتحدة في منطقة التنف. فالعدو «الإسرائيلي» معني بخلق أي توتر في المنطقة الجنوبية، وتحديداً بإيجاد أي شكل من أشكال الشقاق الطائفي. وبتقديم الانتماء الديني على الانتماء الوطني، لأن «البوابة الدينية» قد تسمح له بإيجاد صلات في السويداء عبر أطراف في فلسطين المحتلة جاهزة لتقديم خدماتها. وهو ما يعتقد العدو الصهيوني أنه قد يخدم في التعامل مع أهالي الجولان، وتحديداً عندما أصبح الحديث عن الانسحاب الصهيوني من الجولان، حديثاً ملموساً، ومطلباً سيضعه السوريون في إطار الحلول السياسية الدولية لأزمتهم، وسيكون مدعوماً بتوازن القوى الدولي الجديد، وبالهزيمة الإسرائيلية في سورية، الأمر الذي سيفرض تطبيق قرارات الشرعية الدولية وتحديداً 242 و338.
العدو الصهيوني معني بإشاعة جو طائفي غير مسبوق، ووضعه بتناقض مع الوحدة الوطنية السورية، لأنه يعتقد أن هذا قد يؤدي إلى أغراض متعددة فهو بالحد الأدنى يخلق تناقضات تعرقل الحلول السياسية في سورية التي ستضع انسحاب الاحتلال من الجولان كمطلبٍ مدعومٍ من قوى دولية فاعلة في الأزمة السورية.
أمريكا و«إسرائيل» ومن حولهما
المعني الأول بالسلوك الهمجي الإرهابي لداعش، هي: القوة التي تحمي هذا التنظيم في المنطقة والمتمثلة في القوات الأمريكية المتواجدة في التنف... أما الطرف الذي يريد أن يرى أكبر قدر من الدماء تسيل في السويداء، ويريد أن يتحول الظلم والدماء والغضب إلى شقاق وطني، محمول على أصوات وأدوات طائفية غير وطنية.... فهو الطرف «الإسرائيلي». وعلى ضفاف هذا وذاك وبما يتقاطع معهما لا بد أن تكون قوى الإجرام والفساد الخطرة قادرة على لعب دور تحريضي، أو دور داعم لما يريده الطرفان الأساسيان الفاعلان في جريمة السويداء، لأن هذه القوى معنية أيضاً بتأخير الحلول، وإطالة عمر الأزمة.
إن من يجري مراهنات والبناء على شقاق طائفي في سورية عموماً، وفي السويداء تحديداً، لا يعلم وقائع التاريخ السوري بشكل فعلي... فجبل العرب قدم نصف شهداء الثورة السورية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي، وهذا الإرث الكبير من الدماء الطاهرة من أجل بناء دولة سورية، ينتقل عبر الأجيال... ويشكل مناعة وطنية استثنائية ستحمي ليس فقط السويداء بل سورية من المحاولات اليائسة القذرة للمهزومين.