الانتصار بالنقاط....

الانتصار بالنقاط....

لا شك أن المتابع لمتغيرات الوضع الدولي، وخاصة ناحية تشكل الفضاء الدولي الجديد على أنقاض الفضاء القديم بعلاقاته وأدواته، سيتوقف عند بعض مفاصل هذه المتغيرات والأدوات الجديدة التي بدأت تشق طريقها من خلاله.

ولعل واحدة من الأدوات الهامة التي يتم حسن استخدامها من قبل القوى الصاعدة، وخاصة روسيا الاتحادية، هي: استبدال مفهوم «الانتصار على الخصم» السائد والمعمول به أمريكياً، بمفهوم «ألّا تدع خصمك ينتصر» باعتبار أن الواقع يشير إلى استحالة الانتصار على الخصوم بالضربة القاضية في ظل توازن القوى الدولي الحالي، وفي عالم نووي.
الفضاء الدولي الجديد يتشكل عبر القوى الصاعدة، دولاً وشعوباً، بالاعتماد على الكثير من المرتكزات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والثقافية والمعرفية، وغيرها، ولكل منها أدواتها الجديدة، ولعله لم يعد يخفى على أحد ما تم تسجيله من نجاحات سواء على المستوى الاقتصادي، أو على المستوى العلمي والثقافي والمعرفي، من خلال نمط العلاقات الدولية الجديد المتسق مع القوانين الدولية، والمحقق لمصالح الدول والشعوب، بعيداً عن أنماط الهيمنة والاستتباع التي كانت مفروضة من قبل قوى الهيمنة والاستغلال، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
كما أن أمام القوى الصاعدة مجموعة من المهام واجبة الحل من أجل تذليل العقبات أمامها نحو تكريس هذا النمط الجديد، بالإضافة إلى ضرورة حلحلة الكثير من الملفات الساخنة الموروثة من الفضاء القديم، أولاً: لعجزه عن حلها بالأدوات القديمة المستهلكة، وثانياً: لرغبة قوى المهيمنة المنكسرة بالفضاء القديم بالإبقاء عليها، عسى تمد بعمر هيمنتها ولو إلى حين.
فالولايات المتحدة، وعلى الرغم من تراجعها وانكفائها، إلّا أنها ما زالت تستثمر في الملفات والبؤر الساخنة، مع إدراكها استحالة اللجوء للحلول العسكرية المباشرة. أولاً: لعجزها في ظل تراجعها، وثانياً: ليقينها ألّا منتصر سيكون بها، بالمقابل تسعى الدول الصاعدة، وعلى رأسها روسيا الاتحادية، إلى إطفاء بؤر التوتر هذه وتبريدها للمضي قدماً نحو حلحلتها نهائياً بما يتوافق مع استراتيجيات العلاقات الدولية الناشئة، وهي من خلال الأداة الجديدة المرتكزة على مفهوم «ألّا تدع خصمك ينتصر» تسجل الانتصارات المتتالية، لكن بالنقاط هذه المرة، باعتبار لا ضربة قاضية ممكن استعمالها، اعتباراً من ملف أوكرانيا، مروراً بملف كوريا الشمالية، وصولاً للملف النووي الإيراني، وليس انتهاءً بالملف السوري، حيث بات واضحاً مقدار الجهود المبذولة من أجل إطفاء هذه البؤر الساخنة، ومقدار النجاح المحقق حتى الآن بها.
حسن استخدام هذا التكتيك، وخاصة على مستوى الملفات الساخنة، يدفع الخصوم اضطراراً إلى المفاوضات، ليصار إلى فرض البحث عن التوافقات التي يتم الوصول إليها، لكن هذه المرة بعيداً عن أدوات الترهيب الموروثة من الفضاء القديم ومصالح الدول المهيمنة فيه، ما يعني: أن الدول والشعوب أصبحت أمامها تلك الفرصة التي تخوض بها مفاوضاتها لتخرج بها منتصرة لحقوقها هذه المرة، وليس كما كان عليه الحال في الفضاء القديم.
ولعل المثال الحي بالنسبة لنا، هو: تلك الجهود التي بُذلت من القوى الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين، من أجل الوصول للقرار الدولي 2254 الذي يحقق الخروج من الحرب والأزمة ويوقف الكارثة الإنسانية، على أرضية الحوار والتوافق، وصولاً للتغيير الديموقراطي الجذري والعميق والشامل، بما يحقق الإرادة الشعبية ويصون السيادة والوحدة الوطنية، وهو الحل الوحيد للملف السوري الساخن، والذي سننتصر به وطنياً وشعبياً بالنقاط، بعيداً عن طبول الحرب كلها، وزعيق مروجيها والمستفيدين منها في الأطراف كلها.
إن تكامل مفهوم «ألّا تدع خصمك ينتصر» كأداة جديدة بيد القوى الصاعدة، مع أدوات المفاوضات والحوار التي يتم فرضها بعيداً عن الهيمنة والاستتباع على مستوى الملفات الساخنة، وتوازياً مع أدوات الإيقاع الجديد في العلاقات الدولية بما لا يتعارض مع القوانين الدولية، وتتويجاً بأشكال جديدة من الاتفاقات الدولية تحقق مصالح الدول والشعوب، وغيرها وغيرها، تشير بما لا يدع مجالاً للشك: أن المتغيرات الدولية تشق طريقها نحو الفضاء الجديد، كما تفتح العيون على تلك الأدوات الجديدة التي يتم ابتكارها على أرضية المعرفة الجديدة كذلك الأمر.