عن الشيوعيين و«قشرة الموز» والإمبريالية
في مرحلة الكمون السياسي التي سادت في العقود الماضية، وبالأخص بعد انهيار التجربة السوفيتية، كان العقل السياسي لدى كثيرين قد وصل إلى درجة من البلادة والعجز، حداً يرى في الحديث عن الإمبريالية ودورها في العالم مجالاً للتندر والتهكم.
من مفارقات وطرائف الجدل السياسي خلال تلك العقود، وفي سياق تهكم البعض من الصحافة الشيوعية، قيل لكاتب هذه السطور في جلسة نقاش بتلك المرحلة، لو أن رجلاً انزلق على قشرة موز في الشارع، فإنكم تربطون المسألة بالإمبريالية وسياساتها!
والحقيقة أنه كان لتهكمات من هذا النوع مجالاً ما للترويج، خصوصاً، وأن الحديث الدائم حول الموقف من الإمبريالية ومؤامراتها من قبل كثيرين كانت، بدافع التغطية على جملة التراكمات التي حدثت في البلاد، وخصوصاً في مسألة الحريات السياسية والقضية الاقتصادية الاجتماعية، ولكن جاءت الأحداث العاصفة خلال السنوات الماضية في العالم، ومنها سورية وتفاعلاتها وتأثيراتها، لتكشف للكل عن حجم الترابط بين الإمبريالية وأية قضية في العالم، بدءاً من سعر «الجرجير» على أية بسطة في سوق الخضرة... الذي يتحدد سعره بالدولار صعوداً وهبوطاً، وحتى مسائل حرية واستقلال الشعوب. حتى بات من ضرورات قراءة ما يجري في العالم، ليس فهم الإمبريالية فقط وتحديد الموقف منها، بالنسبة للمسائل السياسية الكبرى فقط، بل إن وضع المركز الإمبريالي الأمريكي، بما فيه الصراع الداخلي الأمريكي، تقدماً أو تراجعاً يشكل اليوم عقدة كل القضايا الدولية. فبدونها لا يمكن فهم أية قضية بشكل صحيح، وبالتالي لا يمكن وضع أية سياسة جادة، سواء كان بالنسبة للدول أو القوى والتيارات السياسية.
الاحتواء المركب الانفكاك المركب
مارست الولايات المتحدة خلال فترة استفرادها بالهيمنة، سياسة الاحتواء المركب للخصوم، والتي نقصد بها احتواء طرفين في الصراع أو أكثر في مسألة ما، واستطاعت من خلال ذلك تفعيل أزمات قديمة، أو اختلاق أزمات جديدة وإدارتها، «الاحتلال العراقي للكويت نموذج» «الحرب على الإرهاب» وغالباً ما نجحت بذلك كتكتيك يناسب إستراتيجية القوة الناعمة، استطاعت من خلالها استنزاف مختلف القوى المتصارعة... وليس سراً أن واشنطن أبدعت في إدارة الأزمات، ولكن في الطور الحالي من التراجع الأمريكي، يمكن تلمس ما نسميه بالانفكاك المركب، ليحل محل الاحتواء المركب سالف الذكر، فانفضاض حلفاء واشنطن عنها بات مسألة شبه يومية، بما فيها حلفاؤها المقربون.
الهيمنة- الحركشة
من أهم ما اتسمت به السياسة الأمريكية خلال الأشهر الأخيرة، هي «الحركشة« بالكل، حلفاء وخصوماً، ولكن بالمفرق، فعهد فرض الإملاءات بـ«الجملة» على الكل انتهى، والتحكم بالقرار الأساسي بغض النظر عن إرادة الآخرين، لم يعد ممكناً كما هو واضح من سلوك مختلف قوى الإدارة الأمريكية بما فيها تلك القوى التي سميت بالصقور واستجلبت لاستعادة «هيبة أمريكا»، فعل شيء، وحتى التصريحات الاستعراضية في هذا المجال تكاد أن تختفي.
فالحملة الإعلامية غير المسبوقة ضد روسيا تم إجهاضها، وبدأت العديد من وسائل الإعلام الغربية تشكك بجدواها وتسخر منها، أما العقوبات ضد روسيا، وإن تركت تأثيراً في بعض المجالات، إلّا أنها على العموم فتحت المجال أمام روسيا، بتنمية مواردها وقدراتها الذاتية، وتقوية علاقاتها الدولية، أمّا حرب النفط والغاز ضد الاتحاد الروسي، فلم تحقق أهدافها، وجلّ ما استطاعت واشنطن فعله كان تحقيق مكاسب جزئية آنية هنا وهناك، من خلال ابتزاز البعض، واستثماراً في خلافات البعض الآخر، مستفيدة من حالة الفوضى الدولية، التي تسبق التحولات النوعية الكبرى في التاريخ.
الانقسام الأمريكي
يعتبر الانقسام الأمريكي الأفقي والعمودي أحد العناوين البارزة للوضع الأمريكي الحالي، وبغض النظر عن الخريطة المعقدة لهذا الانقسام، فإنه بات واضحاً أن هذا الصراع يجري بين جماعة «أمريكا أولا» و«الإنكفاء إلى الداخل»، وبين التيار العولمي، وبات واضحاً أنه لكل تيار من هذين التيارين قراءته الخاصة مع الأزمة، وآفاق تطور الولايات المتحدة ودورها العالمي، وهو ما ينعكس في التصريحات المتناقضة، والتخبط في صناعة القرار.
قمة هلسنكي
شكَّل اللقاء الذي انعقد في هلسنكي تتويجاً، لحالة الكباش التي اتسمت بها العلاقات الدولية، وجاء ترجمة للرغبة الروسية المسؤولة، بضرورة تهدئة الوضع الدولي، والعلاقات بين البلدين وبحث الملفات الدولية، وعلى عكس رغبة قوى هامة وفاعلة ضمن الإدارة الأمريكية، كانت تمانع عقد لقاء بين الرئيسين، حتى الأمس القريب.
إن هذا الاختراق الروسي الجديد، بغض النظر إن كان سيحقق نتائج مباشرة أم لا؟ إلّا أن تأثيره لن يقتصر على العلاقة بين البلدين فقط، بل سيلقي بظلاله على مجموع العلاقات الدولية، وسيكون تعزيزاً لإظهار نمط جديد في العلاقات الدولية، في السياسة والاقتصاد والعسكرة، وهي باختصار مؤشرٌ جديدٌ للقدرة على تأريض ما تبقى من الإعاقات الأمريكية المتعلقة بسورية، وخصوصاً الوجود العسكري الأمريكي في الشمال السوري، فالوجود العسكري الأمريكي في الشمال السوري، كان مجال بحث بين الرئيسين كما تشير التقارير، وكذلك بالنسبة للحل السياسي وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة.
الحركشة على جبهتين
في التعاطي مع الكبار تتلقى واشنطن يوماً بعد يوم خسائر جديدة، فتراجعت أمام الروس، وكذلك أمام الصينين، وكذلك في الحرب التجارية مع أوربا، أما في الحركشة على الجبهة الأخرى أي: الدول الطرفية فعلى ما يبدو ما زالت واشنطن تمتلك هوامش، فإن الحركشة الأمريكية هنا ما زال لها ريع يرتقي إلى مستوى الهيمنة لدى بعض الدول، حسب درجة التشابك مع المركز الأمريكي، ليغطي على تراجع الإيرادات العامة الأمريكية، بشكل مؤقت، ليضخّ الروح في تلك الجثث الميته التي يضيرها الحديث عن الإمبريالية.
أن تكون ضد المشروع الأمريكي
لم يعد الموقف السياسي الإعلامي ضد الولايات المتحدة، وحتى إعلان رفض مشاريعها معياراً كافياً لتحديد الموقف من الإمبريالية، في ظل التحول الجاري في العلاقات الدولية، بل إن المؤشر الحقيقي وربما الوحيد هو: العمل عكس ما تفعله واشنطن في التعاطي مع الملفات الدولية، وتعميم الفوضى عالمياً ومحاولة إدارة أزماته المتعددة، بل إن المؤشر الأهم وربما الوحيد هو السعي إلى إطفاء بؤر التوتر، على الأقل لأن الحرب هي الهامش الوحيد الذي تستطيع واشنطن من خلالها الحفاظ على شيء من نفوذها المتآكل بالضرورة.