ليست حرباً تجارية
كان اجتماع السبعة الكبار والخلافات حول البيان الختامي، ومن ثمّ تراجع الرئيس الأمريكي سريعاً عمّا تم الاتفاق عليه، فالتلميحات الأوروبية والكندية، عن إمكانية الاستغناء عن الوجود الأمريكي في المجموعة. شكلت هذه الأحداث كلّها محطة جديدة لتأكيد انقسام العالم الغربي، ودليلاً آخر على أن ما يجري ليس مجرد حرب تجارية تحت عنوان الصلب والألمنيوم، كما يروّج لها، أو تبايناً في وجهات النظر حول هذه القضية أو تلك كما يشاع! إنما هي تعبير عن أزمة بنيوية عميقة في المركز الرأسمالي الغربي برمته، تطال أهم مفاصله وبناه الاقتصادية والسياسية. ليأتي سلوك الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية «النأي بالنفس» عن تبعات هذه الأزمة. وهي التي تعرف أكثر من غيرها عمق الأزمة، لكونها مركزها.
إن ما جرى، وما سيجري لاحقاً في هذا السياق، هو أحد تجليات «صراع الضواري» الذين يحاولون حل تناقضاتهم على حساب دول وشعوب العالم، فالخلاف بين دول المركز الغربي يجري حول شكلين من نهب العالم والتحكم بموارده: بين العولمة المتوحشة التي استنفذت نفسها، في ظل بروز قوى دولية جديدة، وبين ما يسمى اليوم بالحمائية الأمريكية، التي تحاول الجمع بين ما تبقى من عائدية العولمة، ولكنها تريد في الوقت ذاته تحميل تبعات الأزمة للغير، حتى ولو كانوا حلفاءً ومن «عظام الرقبة» في مسعى للخروج بأقل الخسائر.
تحاول طغمة رأس المال المالي، تغيير نمط العلاقات الدولية القائمة، فالاتحاد الأوروبي مثلاً، لم يعد اتحاداً وليس من الضروري «التعاون» معه كتكتل اقتصادي سياسي، بل هو مجرد دول، يمكن العمل مع كل منها على حدة، مما يمكن تلك الطغمة من إمكانية ابتزازها، واستنزافها.
تتسارع مفاعيل التناقضات الداخلية للمركز الرأسمالي الغربي، لمصلحة تعزيز عالم التعددية القطبية، ولم يفلح كل «أبالسة» العالم الغربي: الإعلامية، والسياسية، والدبلوماسية، والعسكرية، في التغطية عليها أو تأجيلها، أو تأريضها من خلال افتعال معارك مع القوى الصاعدة، وضرب الكل بالكل. بل عملياً ترتد عكسياً عليها، فالغزل الأمريكي تجاه روسيا مؤخراً، واعتراف ماكرون بالأخطاء التي حدثت في العلاقة مع روسيا، وإصرار المستشارة الألمانية على توقيع صفقة الغاز الشمالي مع روسيا، كلها مؤشرات على اتجاه تطور الأوضاع، بما يخدم بالضرورة خيارات القوى الدولية الصاعدة. تلك التي بدورها تبرز قوة حضورها من خلال تعميق التحالفات كما حدث في شنغهاي مؤخراً.
لا شك أن هذه التناقضات الغربية، لن تمر دون عواقب على دول وشعوب العالم ومن المبكر التكهن بمستواها وشدتها. ولكن وبكل الأحوال، يمكن التأكيد وبكل ثقة: إن عالماً جديداً يتشكل، وإن تحكم المركز الغربي بالقرار العالمي، بات في حكم الماضي بشكل ملموس.
إن هذه التطورات العالمية العاصفة، تلقي على عاتق القوى الحية في بلدان العالم ومنها بلادنا، مهمة لا تقبل التأجيل: وهي الاستعداد لإيجاد موقع في الخريطة الجيوسياسية الجديدة قيد التشكل، بما يتوافق مع الاتجاه الجديد في العلاقات الدولية، الذي يسمح بنجاح نموذج وطني يحقق للسوريين أعلى نسبة نمو، وأعمق عدالة اجتماعية.