العلمانية والتأسلم السياسي
تتعدد التفسيرات المتعلقة بمصطلح العلمانية، والموقف منها، ولكن تبقى أكثر التأويلات إشكالية، وأخطرها على الإطلاق، ذلك التأويل الأحادي الذي يقدم لنا العلمانية بوصفها معادلاً للإلحاد ليس إلا، أوفي أحسن الأحوال اعتبار الوظيفة الوحيدة للعلمانية، هي الاشتباك مع المقدس الديني.
ترويج واعتماد مثل هذا الفهم، في بنية اجتماعية مشبعة بالثقافة الدينية، أضاف خطاً جديداً على خطوط الصدام، وفرّخ جبهات صراع عديدة، لم تقف عند حدود النخب والرؤى الفلسفية في مسألة الإيمان بوجود الخالق من عدمه، بل امتدت إلى الموقف من منظومات السلوك الاجتماعي، وأنساقه المتعددة، من ملبس وعادات، وتقاليد، وزواج، وشكل العلاقات بين الجنسين، وغيرها من العناصر التي تحدد هوية الإنسان، ونمط علاقته مع الآخر.. اشترك في تسويق العلمانية بهذه الصيغة الملتبسة، والنمطية، ومنذ ما يقارب عقدين من الزمن، كل من: قوى التأسلم، وخصمها المفترض من جماعة العلمانية المبتذلة، كل من طرفه ولغاياته، التي تبدو متناقضة شكلاً، والمتوافقة في المضمون والنتيجة، وهي تفعيل قانون الفعل ورد الفعل في حقل اجتماعي مأزوم، وفي قضية هي شائكة بالأصل، فكيف إذا جاء المدد من حيث ندري أو لا ندري، من خلال ممارسات استفزازية من هنا أو هناك، وافتعال معارك إعلامية شكلانية، تساهم في تشويه الوعي الاجتماعي المشوه أصلاً في ظل سيادة خطاب الثنائيات الوهمية، وكانت سنوات الأزمة، وما واكبها من حملات دعائية، ذات شكل ديني وطائفي، بمثابة البيئة المناسبة لتكاثر هذه الطحالب، التي انعكست في اجتهادات فقهاء الطرفين، فكانت «نظريات» فقهاء التأسلم حول مشروعية الحكم الديني، والتكفير، والسبي والجزية وما إلى ذلك من مقولات ومفاهيم. وبالمقابل بادرت جماعة «العلمانية المبتذلة»، إلى قراءة أحادية للتراث، وراحت تقيم دور الرموز الدينية من رسل وأنبياء، وخلفاء، لها مكانتها المتجذرة في الوعي الاجتماعي باستخفاف، ووجدت في تقليد السلف سبباً أساسياً وربما وحيداً للأزمة، فلا التهميش له دور، ولا الأزمات الاقتصادية لها علاقة، ولا منسوب الحريات السياسية كان سبباً...
التطرف ظاهرة عامة
التطرف ظاهرة تمر بها كل الجماعات البشرية، تلازم مراحل محددة من التاريخ، وبالضبط في مراحل التفسخ، والقلق الوجودي، وهي لا تخص ديناً أو طائفة أو قومية بذاتها، وتكاد لا توجد جماعة بشرية لا توجد مظاهر من التطرف في تراثها، بغض النظر عن أشكاله، ومستوياته، وتجلياته، أما محاولة اعتبار التطرف ماركة مسجلة باسم الدين الإسلامي، ومحاكمة ملايين المتدينين على هذا الأساس، استناداً إلى بعض الجوانب والحوادث والاجتهادات في التاريخ الإسلامي، فهو في أحسن الحالات فهم قاصر، وغير علماني، وهو قبل ذلك، محاولة لتغييب جوهر الصراع، وتفعيل التناقضات الثانوية على حساب التناقض الأساس.
في جذر التطرف الديني
يعود جذر الصراع بين القوى الدينية، والتيارات العلمانية، إلى بدايات تحلل العلاقات الإقطاعية، وترسخ علاقات الإنتاج الرأسمالية في أوربا، فكانت العلمانية رد فعل تاريخي مشروع في حينه على سلطة الحكم الإلهي، التي تجسدت في الملك، بمعنى آخر، تبلورت العلمانية كتيار في سياق الصراع على السلطة والثروة، وبالتالي هي ليست معطى ثقافياً مجرداً، وليست ظاهرة انقلابية قسرية في التاريخ، تقوم على الإكراه، أو فرض القوانين، «العلمانية» بل هي في العمق: مسألة اقتصادية اجتماعية، سياسية بامتياز، تتعلق بمستوى التطور التاريخي، فلا تستقيم أية علمانية مع ذاتها، ومع المنطق، ما لم تكن جزءاً من سياق تاريخي شامل، وما لم تكن في سياق الموقف من مختلف هذه القضايا ضمن شرطها الخاص، وفي الظرف الملموس.
العلمانية سورياً
أن تكون داعية علمانياً حقيقياً ومسؤولاً وجاداً في سورية اليوم مثلاً، يعني: تحديد الموقف من ثلاث قضايا أساسية، تفرض نفسها على المشهد السوري في هذه المرحلة التاريخية، وهي:
- الموقف من القضية الوطنية
- الموقف من القضية الاقتصادية الاجتماعية، الذي يعني بالدرجة الأساسية الموقف من الفساد، وطرائق توزيع الثروة، وما أفرزته من فقر وبطالة، وتهميش، وبالتالي بيئة مهيئة لكل أشكال الانغلاق، والتطرف.
- الموقف من المسألة الديمقراطية، التي تشكل مسألة فصل الدين عن الدولة، وفصل السياسة عن الدين، أي عدم اخضاع الجماهير المتدينة للتجاذب السياسي جانباً منها لاشك، ولكن هي قبل ذلك تتعلق بمنسوب الحريات السياسية، وقدرة الناس على التعبير عن آرائهم وحقهم في اختيار النظام السياسي.
بين الإسلام والتأسلم
الدين كعلاقة بين البشر والخالق، شأن خاص، وحق مشروع، لا يحق لأحد التطاول عليه، ومنعه، وحتى التضييق عليه، لا من جهة الإيمان، ولا حتى من جهة ممارسة الشعائر، أما الفكر الديني، أو ما يسمى في الأدبيات المعاصرة بالتأسلم، فهو شأن آخر، فالمشكلة مع التأسلم، لا تكمن في الدين بحد ذاته، بل تكمن في التمترس خلف المقدس الديني لتسويق السياسي، لأن الموقف السياسي هنا، ليس مجرد رأي أو اجتهاد، يقبل الخطأ والصواب، ولأنه ينفي بأنه تعبير عن مصالح طبقة أو شريحة اجتماعية، بل يسيج نفسه بالفكر الديني، ويتحصن في خندق سلطة السماء، وهناك يكوّن مجاله الحيوي، ومنها يستمد فاعليته، وبها يتسلح، وبها يمنح صكوك الغفران لمن يشاء، ويقيم الحدّ على من يشاء، أما في العالم الدنيوي فيتمترس في خندق الثروة، إذاً المشكلة تكمن في التحصن خلف «إله السماء» لتسويق ما هو سياسي، بما يساهم في تعزيز سلطة إله دنيوي «المال» وطريقة الاستحواذ عليه، وموجبات ذلك من استغلال ومظالم، يهتز لها حتى عرش إله السماء.
في محاكمة معرفية ومحايدة، لكل من العلمانية المبتذلة، والتأسلم السياسي في الظرف السوري، نجد العديد من المشتركات، وعملية تخادم بين الخصمين، سواء كان بشكل آني من خلال افتعال معارك، أو في قضايا ذات طابع برنامجي كالموقف من الليبرالية الاقتصادية مثلاً، مع العلم أن هذه الأخيرة، جوهر الأزمة التي تكاد أن تطيح بكل ما في البلاد، من علمانية جادة وفعالة، وتدين شعبي يشكل جزءاً لا يتجزأ من الوعي الشعبي السوري، وهويته.
تكمن إحدى المهمات اللاحقة أمام النخبة السورية، إبداع نموذج علماني خاص، يناسب الظرف السوري الملموس، جوهره، حماية الدولة من الدين والدين من الدولة، بما يمنع توظيف الدين في الصراع على السلطة والثروة من أي كان، ويؤمن القطع مع التطرف والتكفير، من حيث الأسباب والمقدمات، وفي الوقت نفسه، يقر ويعترف ويراعي دور الدين في العقل الجمعي السوري.