ماذا يعني التراجع الأمريكي؟

ماذا يعني التراجع الأمريكي؟

إن تراجع وزن الولايات المتحدة ودورها في العالم لا يخص الولايات المتحدة وحدها، ولا العلاقات بين الدول الكبرى فقط، بل هي مسألة تخص كل دول العالم، بلا استثناء، وبالتالي فإن معالجة هذه المسألة ليست ترفاً سياسياً، أو مجرد موقف أيديولوجي، أو اصطفافاً مع خصوم واشنطن، بل يتعلق إلى حد كبير باتجاه تطور الوضع العالمي ككل، وفي مختلف المجالات:



- التراجع الأمريكي، يعني تراجع منظومة كاملة في العلاقات الدولية، تشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة، بحكم الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي في هذه المجالات كلها، على مدى العقود الثلاثة السابقة.
- اقتصادياً، يعني فتح الطريق لإنهاء سيادة الدولار في سوق العملات مما يعني: نزع أحد أهم الأدوات التي كانت واشنطن تعتمدها في ديمومة الهيمنة، وتمركز وتركز الثروة، وتعني أيضاً إنهاء تحكم واشنطن بالمنظمات الدولية الاقتصادية، التي فرضت من خلالها نموذجها الليبرالي، الذي وضع كل اقتصادات العالم في خدمة الاقتصاد الأمريكي.
- إن سقوط الدولار عن عرش العملات، سيجر خلفه سلسلة من التراجعات، وعجزاً عن التمويل الورقي الوهمي، الذي استطاعت من خلاله شراء الدول والأحزاب والرموز الثقافية والإعلامية، وما سمي بمنظمات المجتمع المدني، أو التحكم بكل هذه البنى.
- وعجزاً عن تمويل، منظومة القواعد العسكرية الأمريكية الواسعة في العالم.
- سقوط مدوٍّ لكل الرؤى والنظريات، التي سادت من نهاية التاريخ، إلى صراع الحضارات، وما الى ذلك، من رؤى ومفاهيم.
- إن هذا التراجع يعني موضوعياً: دمقرطة العلاقات الدولية، وسقوط فكرة الاستبداد، التي اتسمت بها العلاقات الدولية، وسقوط احتكار القرار الدولي لصالح دولة واحدة، أو مجموعة دول كبرى، تتقاسم القرار فيما بينها.
- إن التراجع، يعني: تفكيك تحالفات واشنطن التاريخية، وعجزاً عن إدارة هذه التحالفات بالطريقة السابقة، ويعني: تفعيل التناقضات الداخلية بينها وبين حلفائها، وبين القوى التي تتوزع النفوذ داخل دائرة القرار الأمريكي نفسها.
- سيؤدي التراجع بالضرورة، إلى نهاية النموذج الاقتصادي الليبرالي في بلدان الأطراف، كونه قائماً أصلاً على سيادة النموذج الأمريكي عالمياً، وامتداداً له.
- ينهي عملية التخادم بين أركان الهيمنة، الثروة في خدمة العسكرة، والعسكرة لحماية الثروة المنهوبة.
لاشك أن هذا التراجع، لن يمر بدون تأثيرات على عموم الوضع الدولي، حروباً وتوترات، وإفلاسات، وفوضى، فالطغمة المالية الحاكمة، كانت وما زالت وستحاول لاحقاً، تحميل دول وشعوب العالم وزر هذا التراجع، ولكن وبكل الأحوال، فإن كل هذه المظاهر تبقى مظاهر عابرة ومؤقته، وطريقاً إلى عالم آخر، لم تتضح معالمه حتى الآن، إلّا أنه بالتأكيد عالم أكثر عدلاً، وأكثر استقراراً.
من الأقدر على الإجابة؟
مما لا شك فيه، أن عملية التحول هذه وتجاوز النظام الرأسمالي ليست بسيطة، لكنها أصبحت ضرورة تاريخية تتعلق باستمرار الجنس البشري، باعتبار أن المعادل الموضوعي للقوى المهيمنة اليوم هي الحروب والمزيد من التوتير والابتزاز وذلك لاستنفاذ الخيارات البديلة لدى هؤلاء.
فالبديل المفترض موضوعياً تقع على عاتقه مهام حل تلك القضايا نفسها التي أوصلت النظام القديم للطريق المسدود، والقائمة بجوهرها على موضوعة التحكم بالثروة والسلطة على المستوى الدولي.
لعل الأجدر بالإجابة عن هذا السؤال، هي تلك الدول والشعوب التي كانت الأكثر تضرراً من خلال منظومة العلاقات الاقتصادية الاجتماعية القائمة في ظل هيمنة رأس المال وقواه الدولية، والتي دفعت ضريبتها وما زالت، والتي تحمل بنفس الوقت عوامل الظرف الموضوعي وممكناته لخلق الواقع الجديد، وهو ما اصطلح على تسميته بالفضاء الدولي الجديد الناشئ على أنقاض الفضاء القديم.
البديل الاشتراكي المعاصر
العقل البشري كان قد توصل إلى أن النظام الاشتراكي هو البديل عن النظام الرأسمالي، كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، ولم يضف جديداً على ذلك حتى الآن، إلا ما يمكن اعتباره محاولات عبثية لإعادة ضخ الحياة بما هو قيد التموت ليس إلا.
فعلى الرغم من أن التجربة الاشتراكية السابقة قد فشلت، إلا أنها كانت تحمل ذاك الجديد الذي أغنى العقل البشري بتجربة ملموسة قابلة للحياة كبديل لا خيار آخر عنه، طالما أن النموذج السائد قد استنفذ نفسه وممكنات بقائه ووجوده الموضوعية.
على ذلك فإن البديل الاشتراكي الجديد والمعاصر لن يكون نسخة كربونية عن التجارب السابقة من كل بد، لكنه في المقابل يجب أن يكون جوهره ومحتواه، حل قضية التحكم بالثروة والسلطة على المستوى الدولي، ومعالجة النتائج الكارثية التي أوصلتنا إليها الرأسمالية كتشكيلة.
المشروع الوطني الديمقراطي التحرري
في العودة لموضوعة: أن الدول والشعوب الأكثر تضرراً هي المعنية في الإجابة عن سؤال البديل أكثر من غيرها موضوعياً، وإذا كانت مهمة حل جملة القضايا التي أوصلت البشرية للطريق المسدود أصبحت موضوعة كمشهد واستحقاق على المستوى الدولي العالمي، فإن على بلدان الأطراف وشعوبها أن تقوم بإبداع نموذجها الخاص الجديد من الاشتراكية، كبديل يوفر العدالة الاقتصادية الاجتماعية ويعززها، ويضع الحلول للنتائج الكارثية للرأسمالية على المستويات كافة.
ولعل ذلك النموذج الجديد يحمل في طياته جوهراً تحررياً وطنياً واجتماعياً واقتصادياً، والذي يمكن أن يتجسد عملياً بالثورة الوطنية الديمقراطية المعاصرة، كاستحقاق مرتسم موضوعياً أمام هذه البلدان والشعوب، في طريقها نحو اشتراكيتها الجديدة.
المهام الموضوعة محلياً
باعتبار أن الظرف الموضوعي أصبح ناضجاً أمام هذه الدول والشعوب للمضي نحو الاستحقاق المطلوب كمشروع استراتيجي وضرورة تاريخية، فإن توفير حوامله الذاتية والمحلية أصبحت_ بحكم الأمر الواقع_ موضوعة على جدول الأعمال أمام هذه الدول وشعوبها.
أي: أن الضرورة التاريخية تفرض على القوى الوطنية والشعبية الحية في هذه الدول أن تحسن استثمار الممكنات الموضوعية الجديدة الناشئة، من أجل زجها في معركتها الوطنية الديمقراطية بجوهرها المعاصر.
الإسقاط العملي على المستوى الوطني المحلي بهذا الاتجاه يتجسد أولاً: بالحل السياسي وفقاً للقرار 2254 باعتباره بوابة العبور نحو إنهاء الكارثة الإنسانية والأزمة الوطنية، ولكونه يعتبر أحد مؤشرات الانتقال للفضاء السياسي الجديد الناشئ على المستوى الدولي، بعد إزاحة الهيمنة الأمريكية وفوضاها، وهو على ذلك يعتبر معطى موضوعياً بحاجة لحسن استثمار ممكناته على مستوى المهام الوطنية التحررية محلياً، نحو التغيير الديمقراطي الجذري والعميق والشامل، كمعطى ذاتي ومحلي يجب حشد الجهود الوطنية حوله من أجل تحقيقه وإنجازه.