القضية الكردية والتوازن الجديد
بدأ الجدل يدور في الوسط السياسي والإعلامي الكردي حول تحليل الوضع الكردي الراهن، وآفاقه، بعد سلسلة الإخفاقات المتتالية في المشروع القومي الكردي، منذ نهاية 2017 «نتائج الاستفتاء في إقليم كردستان العراق_ تراجع فعالية حزب الشعوب الديمقراطي في كردستان تركيا_ الاحتلال التركي لعفرين» وغيرها من الوقائع التي تشكل بمجموعها مؤشراً ملموساً على انخفاض الوزن النوعي للقضية الكردية، على عكس ما كان عليه الأمر خلال العقدين السابقين.
بادئ ذي بدء، لابد من التأكيد بأن ما يتراجع، ليست القضية الكردية بحد ذاتها، كظاهرة جغرافية سياسية تاريخية، بل هي السياسات الخاطئة التي وصلت إلى طريق مسدود، فالقضية الكردية كقضية تحرر قومي، كانت وما زالت وستبقى قضية شعب، لا يلغي وجودها لا سياسات الإنكار، والإقصاء من طرف الأنظمة الحاكمة، ولا الأخطاء الاستراتيجية للقيادات الكردية، لا بل نعتقد بأن الآفاق مفتوحة تماماً لإيجاد حل ديمقراطي عادل، في حال توفر الشرط الذاتي، مع التنويه، بأن طرح سؤال الانكسار بحد ذاته، هو ظاهرة حميدة، ويكشف في جانب منه، عن حيوية ما، في العقل القومي الكردي، وإن كان لم يعالج ظاهرة الانكسار بعمقها وأبعادها الحقيقية، ولم يتجاوز حتى الآن عتبة التخندق الحزبي، حيث يتم تحميل مسؤولية الانكسار والتراجع، لهذا الحزب أو ذاك، أو هذا التيار أو ذاك «البرزانية_ الطالبانية_ الأوجلانية» فكل تيار يحمل المسؤولية للطرف الآخر، وكفاها المولى! أو في أفضل الأحوال، تلمس الخطر دون الوقوف على مقدماته، وما ينبغي فعله.
في مقدمات الانكسار؟
يعود جذر التراجع الراهن إلى تلك الرؤية التي سادت لدى قطاع من الحركة القومية الكردية، منذ بداية تسعينات القرن الماضي، حيث أيقنت بسيادة النموذج الأمريكي «عصر الديمقراطية_ وحقوق الإنسان» وبنت سياساتها وخطابها على هذا الأساس، وحاولت الاستفادة منه لتحقيق اختراق تاريخي باتجاه «حل» القصية الكردية، ومع التطورات التي حدثت في دول المنطقة، تعزز هذا الفهم لدى قطاع واسع من النخبة الكردية، ومع الدور الذي لعبه الكرد ضد داعش، والحديث المتكرر عن خرائط جديدة في المنطقة، وصل الأمر إلى القيام بخطوات من جانب واحد طالت الجغرافيا السياسية، ليظهر بشكل ملموس، بأن الدعم الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً، هو مجرد «ورطة» وليظهر بأن المسألة الكردية بالنسبة إلى الغرب ليست إلا ورقة ضغط، تستخدم عند اللزوم.
إشكالات الخطاب القومي
تم التعبير عن هذه الرؤية، من خلال خطاب دعائي اتسم على العموم بضيق الأفق القومي، والانطلاق من الخاص إلى العام، على مبدأ «شعبي مظلوم، والباقي لا يهمني» خطاب جمع بين الشعبوية القومية، والبداوة السياسية، اختلف مع الكل، إلا من باعه الأوهام، كان ليبرالياً تارة، ومتعصباً قومياً تارة أخرى، مرة كنت تراه جامحاً، وأخرى غارقاً في الإحباط والاكتئاب السياسي، انعزالياً، في عالم من أهم خصائصه وسماته في هذه المرحلة التاريخية، التشابك والاندماج؛ أحادياً، في ساحة إقليمية جميع قضاياها مترابطة موضوعياً. وهي أشبه بحقل ألغام لأسباب تاريخية أسست لها السياسات الاستعمارية، وسياسات الأنظمة الحاكمة ما بعد مرحلة الاستقلال السياسي، أي: أنه كان امتداداً كاريكاتورياً لخطاب أنظمة الحكم القومية السائدة، باختصار افتقد هذا النموذج من الخطاب القومي الكردي كل أبجديات علم الاجتماع السياسي. حتى بات دون لون وطعم.
أثبتت الوقائع الأخيرة والتجربة الملموسة، واتجاه تطور الأحداث في القضية الكردية، عقم هذه الخيارات، لا بل أن الوضع بعد الاحتلال التركي لعفرين، وضع مجمل الوضع الكردي في مأزق تاريخي.. فتحول الخطاب السابق إلى خطاب ذرائعي، تبريري يقتصر على اتهام الدول الكبرى بخذلان الكرد، مشوباً بالتحسر وندب الحظ، حاملاً في ثناياه الاستعداد لتكرار الخطأ نفسه.
المخرج الحقيقي
إن الطاقة الجبارة الكامنة، في الديموغرافيا الكردية التي تراكمت عبر التاريخ، بكل آلامه، وتعرجاته، بسلبياته وايجابياته، يمكن أن تَتَفعّل باتجاه يخدم الحقوق المشروعة للشعب الكردي، وتمنع أي تطور دراماتيكي، رغم الموقف الحرج الذي تمر به القضية الكردية، وهذا ما يفترض صياغة رؤيا تقوم على:
_ الانطلاق من حقيقة وجود توازن دولي جديد يتشكل، وإن قوى دولية يزداد وزنها، وقوى أخرى تتراجع.
_ إن هذا التغير في ميزان القوى الدولي عملية تاريخية موضوعية، ومستمرة، مآله الحتمي انتهاء الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي.
_ فهم طبيعة القوى الصاعدة وخياراتها، القائمة على تبريد البؤر الساخنة، والتوجه إلى الحلول السياسية، والتعاطي مع كل ما يتعلق بالقضية الكردية وفق ذلك.
_ إن فهماً من هذا النوع يفرض على القوى الكردية العاقلة، تحويل الزخم الكفاحي لدى الشعب الكردي، إلى قوة باتجاه الحل السياسي، فكما كان هذا الزخم عاملاً في زيادة الوزن النوعي للقضية الكردية بعد الدور الذي لعبه الكرد ضد داعش، يمكن أن يصبح هذا الزخم عاملاً في زيادة وزن القضية الكردية من خلال الانخراط في الحلول السياسية.
إن رؤية كهذه، ستؤدي بالضرورة إلى توحيد الصف الكردي، أو على الأقل الى إحداث فرز حقيقي، بين القوى القومية الديمقراطية الكردية الجادة، وبين قوى بيزنس النضال القومي، فوحدة الصف التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام، ليست مسألة وجدانية وأخلاقية، بل هي قبل ذلك مسألة سياسية، تتعلق بصوابية الخيارات أو خطئها. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الرؤية ستؤدي إلى حشر القوى الشوفينية في الدول الأربع، سواء كانت في الأنظمة أو المعارضات، وسيؤدي ذلك إلى المزيد من التعاطف الشعبي في هذه الدول مع الشعب الكردي، مما يعني: مساهمة الكرد في شرف بلورة تيار شعبي وطني ديمقراطي عريض، يتجاوز الانتماءات التقليدية، وفي الوقت نفسه يراعي الخصائص الثقافية للجميع، وحقوق الكل، وسيؤدي إلى قطع الطريق على أية معارك هامشية يدفع الجميع ثمنها.