أمريكا «الصديقة» .. وداعاً!
عشية تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، يشتد عويل الإعلام الليبرالي العربي في نسخته الخليجية، مذعوراً من سيناريو تفكك التحالفات التي تتزعمها أمريكا، والانكفاء المحتمل للأخيرة، وتصاعد الدور الروسي في المقابل، مستحضراً دون ذلك طاقاته «الفكرية والثقافية» كلها في التحليل.
من خلال عناوين من نوع «رئيس نهاية العالم» و«ترامب رئيساً: العالم في خطر» أو «ترامب وعدم اليقين ومنطقتنا» ومثلها، تقارب وسائل الإعلام العربية الليبرالية، كصحيفة «الحياة» السعودية أو «العربي الجديد» القطرية كنموذجين قدوم الإدارة الأميركية الجديدة، مستحضرة أدواتها «التحليلية» وطاقاتها الصحفية كلها في ظل درجة عالية من القلق والترقب، لم يكن لها ما يضاهيها في أي من الأحداث أو الانتخابات السابقة. تتعدد «القراءات» ولكن بوصلة القلق تبقى ثابتة باتجاه وحيد: الانكفاء الأميركي نحو الداخل؟ والتخلي عن الحلفاء في خضم أكثر من أزمة مفتوحة حول العالم، في مواجهة خصوم دوليين وإقليميين، كروسيا والصين وإيران.
وليس جديداً الخوض في المخاوف الخليجية من قدوم الإدارة الأميركية الجديدة والإشارات التي بدرت من الأخيرة، إلا أن ما يستوقف الانتباه هو: أن وسائل الإعلام المذكورة اتبعت معالجات فكرية وثقافية غاية في التخلف، بعضها مترجم بركاكة من الإعلام الغربي وبعضها من «إبداعاتها» الحصرية..
في البداية، لسنا في وارد تقييم الأدوار المفترضة للرئيس الأميركي الجديد أو إدارته الجديدة، فليس ثمة عاقل يمكن أن يخالطه الوهم، أن أية قيادة للبلد الإمبريالي الأكبر في العالم، والذي تتناقض مصالحه ودوره الدولي مع شعوب المعمورة كلها، يمكن أن تتصرف وفقاً لمصلحة أحد غير الاتجاهات والقوى التي تمثلها موضوعياً.
إلاّ أنّ المسألة المثيرة للاهتمام في متابعة سيل الانتقادات الموجهة للإدارة الأميركية الجديدة من الإعلام الليبرالي الخليجي، هي: أنها ترتكز في الجوهر حول تكوين رأي عام مناهض لمسألتين: تراجع الولايات المتحدة عن تدخلاتها الخارجية، والشراكة مع روسيا في حل الأزمات حول العالم.
كيف تكون أمريكا «صديقة»؟!
لمواجهة شبح تخلي الأميركيين عن حلفائهم، يزج محللون وإعلاميون ليبراليون عرب أسلحتهم السياسية والإعلامية والفكرية «الثمينة» كلها في المعركة.
بالمجمل يلاحظ المتابع أن هؤلاء يكادوا يكررون الطرح ذاته حول طبيعة الأزمة التي تشهدها الولايات المتحدة، فالأزمة هي «ثقافية»! هي تعبير عن انقسام ثقافي يشهده الغرب. فلا وجود للأزمة الرأسمالية العالمية، بأبعادها المالية فالاقتصادية والاجتماعية- السياسية، والتي لم يعد يجرؤ حتى ليبراليو الغرب أنفسهم على تجاهلها في كتاباتهم (فيما الليبراليون العرب لا يجرؤون على ترجمتها في نسخهم الركيك لتلك الكتابات). الأزمة الثقافية التي يستشعر هؤلاء خطورتها، هي: أن الإدارة الأميركية الجديدة معادية للمسلمين والإسبان والمهاجرين.. الخ. والحقيقة فإن مثل هذه الملفات تستحق الخوض فيها، وخصوصاً في بلد مثل أميركا، يعج تاريخه بالانتهاكات في المجالات المذكورة في داخله، وعلى مستوى العالم.
والسعي لمعرفة مصير مثل هذه الملفات مع الإدارة المقبلة، أمر غاية في الأهمية، ولكن، ولكي يستوي النقاش، ولكي نتعرف أكثر على نوايا مثيريه، يجب أن نوسع دائرة المساءلة لتشمل الإدارات السابقة، والمرشحة المقابلة لترامب، هيلاري كلينتون، ولنرى بالملوس كيف عولجت مثل هذه القضايا؟!
في عهد الرئيس جورج بوش الابن، جرى احتلال افغانستان والعراق، وفي عهد أوباما تم التدخل عسكرياً في ليبيا (عندما كانت هيلاري كلنتون وزيرة للخارجية)، وتم تفجير الوضع في سورية وأوكرانيا، والتدخل في بلدان أميركا اللاتينية سياسياً وأمنياً واقتصادياً، للإطاحة بالحكومات اليسارية المنتخبة .. والقائمة طويلة. لم يستدع ذلك كله فيما مضى نوبات من هيستريا الخوف على حقوق الشعوب، والمضطهدين، لدى ذلك الإعلام..! إذن، فإن «صداقة» الغرب التي ينعيها الإعلام الليبرالي العربي، لم تكن إلا تدخلات مدمرة في بلدان «الأصدقاء» كلهم، وهنا يكمن مربط الفرس، ذلك أن الخطاب العنصري، يطرب أسماع المحللين الليبراليين، عندما يليه تدخل خارجي، أما عندما يشي ببداية انكفاء ومحاولة تملص الإدارة الأميركية الجديدة، من مستنقعات ووحول السياسات السابقة، فهذا ما كان يُخشى وقوعه، بنظرهم.
بوتين من وراء القصد
وفي سياق تنظيرهم «للأزمة الثقافية» التي يشهدها الغرب، يجترح الإعلاميون الليبراليون العرب، نظرية جديدة حول اليمين واليسار، فـ«اليمين القومي» الذي بدأ يترعرع في الغرب، «يتمحور خطابُه حول فكرة السيادة، والمجال الحيوي للدولة، بوصفهما مكونات رئيسة في أيديولوجيّة نظام سلطوي؛ ويعني ذلك غالبًا رفض التدخل في شؤون الدولة الداخلية بذرائع، مثل: حقوق الإنسان» إضافة إلى اتباع «الإجراءات الحمائية الاقتصادية» الاقتباس لعزمي بشارة في العربي الجديد. ومما يبعث على السخرية، أن هذا التعريف جاء بسياق يبدأ من عند توصيف الأوساط المؤيدة لترامب في أميركا، وينتهي عند بوتين في روسيا، كمثال ثانٍ. والحال أن كل تعريفات «اليمين القومي» و«اليمين الفاشي» و«اليمين المتطرف»..الخ، تصب في النهاية عند بوتين في أدبيات الصحافة الليبرالية العربية.
مثل هذا الانحدار في تعريف اليمين، ليس إلا بروباغندا، ومجرد توصيفات تستخدم للشيطنة لا أكثر، تدل على عجلة أصحابها في إنجاز طلبياتهم. ولا يحتاج إلى عناءٍ، القول: أن الظاهرة الفاشية التي بدأت تظهر عشية اندلاع الأزمة الاقتصادية الرأسمالية في الأوساط الغربية الحاكمة، كانت تجد تعبيراتها الواضحة في التدخلات الخارجية المدمرة، التي سبق ذكرها، وإشعالها الحروب واستيلادها التنظيمات الإرهابية على الأرض، ومن خلال إدارات «اليسار الأمريكي التقليدي» أيضاً متمثلاً بالحزب الديمقراطي، فضلاً عن إدارات الحزب الجمهوري المتعاقبة. ومن جهة أخرى، فإن السيادة واحترام القانون الدولي، في رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول «بذرائع» حقوق الإنسان، والسعي نحو حلول سياسية وحماية السلم العالمي، ليس من شيم «الفاشية» و«اليمين المتشدد» كما يستطيع أي شخص مطلع على أبجديات السياسة أن يدرك ذلك.
مثل هذه الطروحات، لا تُصنّف في خانة العجز المعرفي، بالرغم من الرداءة الفكرية لأصحابها، بل هي تعكس بنحو واضح، حالة الذعر التي تنتاب بعض القوى الإقليمية كالسعودية وقطر، من اضطرار الولايات المتحدة للانسحاب من الحرائق التي أضرمتها في منطقتنا، وزجت بحلفائها فيها في وقت سابق، وذلك في ظل تغيّر ميزان القوى الدولي لغير صالحها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 794