المعارضة السورية ومطب الاستعانة بالخارج
كان غزو العراق واحتلاله في 2003، تحوّلاً مفصلياً في العلاقات الأميركية ــ السورية، لم يشهد له مثيل خلال الأعوام الثلاثين السابقة. وكان من الواضح في هذا التحوّل الآتي من طرف واشنطن أنّها تريد تدفيع دمشق، الرافضة لغزو واحتلال العراق، أوّل فاتورة إقليمية ثمناً للمتغيّرات الجديدة الناتجة من سقوط بغداد وتحوّل الولايات المتحدة إلى «قوة إقليمية مباشرة» في المنطقة.
لم تحصل ترجمات فورية لهذا التحوّل المفصلي بين دمشق وواشنطن في عالم المعارضة السورية المكتوب والشفوي، وإن كان ساد في الأجواء المعارضة انطباع غالب بأنّه يمكن استئناف الحراك المعارض، الذي أصيب بالجمود بعد اعتقالات أيلول 2001، ومن ثم انتزاع تنازلات من النظام.
مع هذا، فمن الممكن القول بأنّ الموضوع الرئيسي الذي شغل أوساط المعارضة السورية في صيف 2003، كان الموضوع الأميركي، وليس موضوع النظام، كما كان في السابق. افتتح الدكتور برهان غليون النقاش المكتوب مبكراً في يوم 26 أيار 2003 في مقال «المعارضة العربية بين الوطنية والديموقراطية» (موقع «أخبار الشرق»، لندن). وقال: «الوضع الهش والقلق للمعارضة التي لا تستند لا إلى وظيفة بنيوية في النظام ولا إلى قاعدة اجتماعية ثابتة هو الذي يفسر ضعف المعارضة... ويفسر المأزق الذي تجد نفسها فيه وتناقض اختياراتها أو الإحراجات التي تجد نفسها حبيستها في الاختيار بين الاستبداد والاستعمار، فهي إما أن تقبل بأن تظل هامشية ومهمشة لا وزن ولا مكان ولا قيمة لها، أو أن تتعامل مع قوى أصلية وفاعلة أو ماسكة داخلية أو خارجية». يحاول الدكتور غليون في هذا المقال حشر المعارضين السوريين بين خياري الاستبداد والاستعمار، من دون القبول بوجود خيار ثالث. وبالتأكيد فإنّ ذلك لا ينبع عنده من «العلمية الصارمة»، بل من غايات سياسية كان يضمرها آنذاك، قبل أن يصدر حكماً قاطعاً في 2 تشرين الأول 2003 في موقع «أخبار الشرق» في مقال تحت عنوان «الإصلاح مجرد سوء تفاهم». وقال في ذلك المقال «النظام السوري، مثله مثل جميع الأنظمة الشمولية التي عرفتها الكرة الأرضية خلال القرن العشرين، قد فقد جميع شروط بقائه التاريخية، وفي مقدمها ظروف الاستقطاب الدولي... وهو اليوم في طريق مسدود دائماً». وقد كان الدكتور غليون (بناءً على ملاحظة كاتب هذه السطور، وهي ملاحظة لمسها العديد من أعضاء الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي) في تلك الفترة، يمارس نفوذاً متعاظماً على رياض الترك، الذي كان قال قبيل أيام من ذلك المقال، خلال جولة خارجية في القارتين الأوروبية والأميركية استغرقت شهرين، بأنّه عبر احتلال الولايات المتحدة للعراق «أزاحوا نظاماً كريهاً ونقل الأميركيون المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر» («النهار»، 28 أيلول 2003). وقد عاد الأستاذ الترك من تلك الرحلة ليقول «بأنّ هناك رياحاً غربية ستهب على دمشق، وعلينا أن نلاقيها ببرنامج سياسي مناسب»، في أحاديث شفوية مع كاتب هذه السطور، ومع العديدين غيره.
إلا أنّ جورج بوش، مع جاك شيراك المتصالح حديثاً مع الرئيس الأميركي بعد خصامهما حول حرب العراق، اختارا بيروت ميداناً لمواجهة النظام السوري، بدلاً من دمشق، ربما لاعتبار بيروت «كعب آخيل» سورية. أو كما شرح فينسان نوزي صاحب كتاب «في سر الرؤساء»، في برنامج «الملف» مع قناة الجزيرة (الجمعة 26 تشرين ثاني2010)، بأنّ شيراك كان يعتقد بأنّ خروج السوريين من بيروت سيؤدي إلى سقوط النظام في دمشق، ولا يعرف إن كانت مجاراة بوش له آنذاك كان لها الهدف نفسه من العمل الأميركي ــ الفرنسي المشترك ضد دمشق الذي بدأ منذ خريف 2003، حتى وصوله إلى لحظة ذروة كان تجسيدها في صدور القرار 1559عن مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004.
كان مشهد ما بعد مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مع تظاهرة 14آذار وانسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان 2005، ذا تأثيرات عميقة على المعارضة السورية، إذ أوحت أحداث بيروت بأنّ هناك احتمالات كبيرة في أن يكون لها ترجمات مماثلة في دمشق.
في حوار مع صحيفة «نيويورك تايمز» (توجد ترجمة له في موقع «الرأي» بتحديث يوم23 آذار 2005)، يقوم رياض الترك بتوحيد حالة دمشق مع بيروت: «المستقبل للمعارضة... النار تحت الرماد. هل أستطيع إخبارك بميقات وقوع الزلزال؟ كلا، انظر إلى لبنان، هل كان في وسع أحد أن يجزم متى سيندلع كل ذلك؟ مقاومتنا ومعارضتنا بدأت قبل لبنان بوقت طويل. لا نستطيع الجزم. هذا المجتمع الأبكم يريد التخلص من هذه الحكومة». ثم يضيف: «ليس للدولة القدرة على الإصلاح والانفتاح على الشعب. بشار لم يتعلم درس العراق. إنّه مثل صدام حسين الذي كانت لديه 11 سنة، من 1992 إلى 2002، لكي يتغيّر فلم يستطع. ما كان للولايات المتحدة أن تدخل العراق لو أنّ صدام كان قادراً على التغيير». وبعدها يعلن: «نعم، أنا على يقين أنّ الشرق الأوسط جاهز للسير في الطريق نحو الديموقراطية. نحن جاهزون للتخلص من الديكتاتورية. نحن نتفق مع الأميركيين في ذلك».
بعد عشرة أيام، وفي 3 نيسان، تبعت جماعة الإخوان المسلمين السوريين الأستاذ الترك من خلال بيان (منشور بموقع «الرأي»، تحديث يوم 3 نيسان 2005)، فيه قراءة من الواضح فيها أنّ التشدد الجديد (بعد اعتدال تجاه العهد الجديد من قبلهم استغرق فترة ما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد) مرده «أنّ القوى الخارجية التي كانت تسند الاستبداد والديكتاتورية منذ ستين عاماً، اعترفت بأنّها كانت على خطأ وتراجعت عنه».
آنذاك، كان النظام السوري في حالة حصار دولي وإقليمي. قام رياض الترك، في مقابلة مع موقع «سيريا كومنت» (تحديث يوم 8 أيلول 2005، وهو موقع يديره جوشوا لانديس، أحد المحافظين الجدد في واشنطن) بالإعلان أنّ «هذا النظام انتهت صلاحيته. هذا النظام يحتضر... هناك صراع بدأ يستعر بين الأميركيين وسورية، وهذا يفسر لماذا أقول إنّ الأميركيين قادمون سواء رحبنا بهم أم لم نرحب... ولكن لنتكلم موضوعياً، عندما يصاب الوضع الداخلي بالوهن، القوى الخارجية تتدخل، وهذا يفسر لماذا أقول دائماً إنّ الأميركيين قادمون. دعهم يطيحون هذا النظام». في موازاة ذلك، قام قيادي ووجه إعلامي في الإخوان، هو الطاهر إبراهيم، بالتكلم بلغة مشابهة: «ما تريده أميركا قد يتقاطع في مرحلة ما مع مصلحة الشعب السوري... ولعل أول شيء ينبغي أن يخطر ببال المعارضة هو أن تلتقي وتبحث فيما بينها إن كان من الممكن أن تجري حواراً مع أميركا، ما دام هذا الحوار يقوم على مبدأ أنّ هذا النظام قد انتهت مدة صلاحيته» («خارج السياق وبعيداً عن المزايدات»، موقع «الرأي»، تحديث يوم 6 تشرين أول 2005).
لا يعرف حتى الآن، إن كان معارضون سوريون محددون قد تلقوا إشارات دولية فعلاً بأنّ «النظام قد انتهت مدة صلاحيته»، أم أنّهم قرؤوا ذلك من عندهم، حتى يقوموا بتأسيس «إعلان دمشق» (16 تشرين أول 2005) الذي ينطلق من المقولة الواردة في نصه بأنّ «عملية التغيير قد بدأت»، وذلك قبل خمسة أيام من صدور تقرير ميليس، الذي توقع الكثيرون بأنّه سيحدث تأثيرات زلزالية في دمشق.
على كل حال، كانت هناك إشارة أميركية رسمية معاكسة، أطلقت في بيروت قبل ثلاثة أيام من «إعلان دمشق»، إذ قالت جولييت وور، مديرة الشؤون العامة في السفارة الأميركية في بيروت: «الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام في سورية، بل إلى تغيير تصرفاته»(جريدة «السفير»، الجمعة 14 تشرين الأول 2005)، محددة تلك التصرفات في ثلاثة أمكنة بالتوالي: العراق، فلسطين (علاقاته مع حماس والجهاد)، ولبنان.
كان اللافت في نص «إعلان دمشق»هو مدى الانزياحات التي حصلت من خلاله عند يساريين ماركسيين وقوميين ناصريين وحتى اسلاميين من الحركة الإخوانية السورية. إذ تم التعامل مع الشعب السوري من خلال «مكوّناته» (كما في «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، وهو ما قاد في العراق من خلال «ديموقراطية المكوّنات» إلى مقولة»الديموقراطية التوافقية»)، مع عدم ذكر كلمات أميركا وإسرائيل والعراق وفلسطين في النص، وتقزيم انتماء سورية العربي إلى «انتماء إلى المنظومة العربية»، وكأنّها في علاقتها مع العرب هي مثل علاقة هنغاريا وبولندا مثلاً، حين كانتا في منظومة «حلف وارسو».
اصطدم «إعلان دمشق»بالحائط لما لم تتحقق المراهنات على اهتزاز النظام أو سقوطه، «بعدما بدت سورية هي التالية في أجندات الإدارة لإصلاح الشرق الأوسط الكبير، رغم أنّه بات واضحاً أنّ الأمر كلّه كان جهداً من واشنطن لإيقاع المعارضة السورية في شرك لم يكن يهدف لأكثر من الضغط على الحكومة السورية لكي تتصرف وفق ما كانت الولايات المتحدة تريده»، وفقاً لكلام جوشوا لانديس لمجلة «تايم» (19 كانون الأول 2006، مراجعة النسخة الإلكترونية للمجلة).
من الأرجح، أنّ تغليب الأميركيين في الربع الأخير من 2005 لسياسة «تغيير سلوك النظام السوري، بدلاً من تغييره»، بخلاف رأي شيراك، كان مرتبطاً بتعاون السلطة السورية عبر الضغط على حلفائها (الشيخ حارث الضاري وبعض قوى المقاومة العراقية)، من أجل عدم عرقلة انتخابات البرلمان العراقي في الشهر الأخير من 2005، إضافة إلى خوف واشنطن من تداعيات «الفوضى السورية»على عموم المنطقة، في حال سقوط النظام دون بديل ملائم أميركياً.
في المجمل، كانت مرحلة 2003 ــ 2005، وفقاً لما ظهر من سياسات أغلبية قوى المعارضة السورية التي اتجهت بالمحصلة في خريف 2005 إلى تشكيل «اعلان دمشق»، مؤشراً واضحاً على تسيير أشرعة هؤلاء المعارضين السوريين وفقاً لـ«الرياح الغربية». رياح بدأت منذ مرحلة ما بعد العراق المغزو والمحتل، تدخل في صدام مع النظام السوري، بخلاف ما كانت عليه الحال في مرحلة 1976 ــ 2002 التي كان فيها التوافق قائماً بين دمشق وواشنطن، والتي أظهرت فيها كل فصائل المعارضة السورية بأطيافها العروبية والاسلامية والماركسية تشدداً أكبر من النظام السوري في القضايا الوطنية والقومية، خصوصاً في محطات حرب 1982، وحرب1991، ومؤتمر مدريد.
في هذا الصدد، هل من المشروع هنا التساؤل عن سبب تزامن تحوّلات الدكتور برهان غليون، القريب من دوائر فرنسية عديدة، مع تحوّلات الرئيس شيراك، البادئة بعد شهر واحد من انتهاء حرب العراق التي كان معارضاً لها، وسعيه منذ خريف 2003مع الأميركيين لإقناعهم بإطاحة النظام السوري، كما يكشف كتاب فينسان نوزي، السابق الذكر؟ فالدكتور غليون، بالمناسبة، عاد وغيّر رأيه في 2007، مع تغييرات ساركوزي الانفتاحية تجاه دمشق...
■ كاتب سوري
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 543