محمد الجندي محمد الجندي

قيمة الإنسان

الأحداث التي جرت في الأراضي المحتلة ولبنان (أسر جند إسرائيلي في غزة في أواخر الشهر الماضي والانتقام الهمجي الإسرائيلي من القطاع، وأسر جنديين إسرائيليين في جنوب لبنان في 12/07/2006 وردود الفعل الانتقامية الإسرائيلية) توجي بأن العسكرية الإسرائيلية حريصة على جنودها، وعلى الرعايا الإسرائيليين. إن تاريخ الصهيونية مع اليهود هو تاريخ دموي، فقد تواطأجناح جابوتينسكي مع هتلر من أجل اضطهاد اليهود لدفعهم إلى الصهيونية، وقتل العديد من اليهود في المعسكرات، التي أقامتها الصهيونية في أوربا،

كما قتل العديد من اليهود في الرحلات التي كانت تنظمها الصهيونية إلى فلسطين. أما اضطهاد المهاجرين من بلدان العالم الثالث، من البلدان العربية وإيران، وخصوصاً من أثيوبيا، فيمكن أن يملأ الحديث فيه صفحات، طبعاً ما عدا البارزين منهم، الذين لهم أدوار عسكرية أو سياسية، مثل عمير بيرتيس، و«فؤاد»، وموفاز...إلخ. حتى اليهود الروس الذين هاجروا إلى إسرائيل بفضل عصابة شارانسكي، فإن أغلبهم ذاقوا الأمرين، ووصلوا إلى درجة التسول، مع أنهم مؤهلو ن.
العسكرية الإسرائيلية يهمها إعادة احتلال غزة، والاستمرار في إبادة الفلسطينيين أكثر بكثير من إنقاذ أسيرها، وربما يهمها «تأديب» لبنان، أو العودة إلى جنوبه أكثر من إنقاذ الأسيرين.
بالمقابل إنسان العالم الثالث لا قيمه له عموماً أمام إداراته وقيادات منظماته. الإنسان هنا يعتقل ويعذب، وقد يعدم لأسباب واهية، أو لأسباب متوهمة؛ وإذا لم يحصل ذلك، فلا أحد عموماً يحمل مسؤوليته في الفقر والجوع والأعمال الخطرة، والشيخوخة والعجز. أيضاً لا أحد يحمل مسؤوليته أو مسؤولية عائلته، إذا أرسل في مهمة خطرة.
الإنسان متروك لمصيره، فليهاجر أو فليتحمل كل مظالم مجتمعه، المهاجرون من العالم الثالث يملؤون البلدان الأوربية وبلدان الأمريكتين وبلدان الخليج.

هناك الشرائح العليا من المهاجرين، الذين يعيشون في أوضاع مريحة، وهناك الشرائح الدنيا الذين يعيشون في جوار، أو تحت خطر الفقر، فوضعهم في بلدانهم هو أسوأ بكثير، هو وضع الجوع. منظر يقطع نياط القلوب، ذاك الذي يمثله حبل المهاجرين الأفارقة، وهم يغامرون بحياتهم هرباً من الجوع. البلدان الأوربية تخاف منهم، فهم يؤلفون إذا ما نجحوا في التسلل إليها عبئاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. عدا ذلك، فإن السياسة الاستعمارية الأوربية والأمريكية أتخمت بلدانها بالمهاجرين.
والسياسة الاستعمارية إياها تعتبر بلدان العالم الثالث محميات صيد، وتعتبر شعوب العالم الثالث عرقاً أدنى، مثلهم مثل الهنود الأمريكيين (الهنود الحمر) في منظور الإدارة الأمريكية، هي التي تسيطر على الساحة الدولية، فإن إبادة الفلسطينيين لا تعني لها شيئاً، ولا تحرك فيها شعرة. هذه السياسة ترى من الطبيعي أن تدمر إسرائيل البنية التحتية للحياة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وأن تدمر الجسور وتحرق المزارع في الجنوب اللبناني. والمسؤول في منظور السياسة الاستعمارية ليس الاحتلال الإسرائيلي، ولا عدوانية العسكرية الإسرائيلية، وإنما الفلسطينيون واللبنانيون. ولذلك فعلى الفلسطينيين واللبنانيين في رأي السياسة الاستعمارية القبول بالاحتلال، والقبول بالعدوانية. والمطلب الذي تنطق به كل أفواه ممثلي السياسة الاستعمارية هو الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين دون قيد أو شرط، وحتى دون وقف العدوان، فهذا الوقف قد يأتي فيما بعد، حسب مزاج العسكرية الإسرائيلية.

ماذا عن المعتقلين في السجون الإسرائيلية؟ هل هؤلاء يستحقون كلمة في رأي السياسة الاستعمارية؟ لقد اعتقلتهم العسكرية الإسرائيلية «دفاعاً عن النفس»، وهي وحدها التي تنظر في أمرهم.
السياسة الاستعمارية لا ترى في إنسان العالم الثالث إنساناً، فقتلاه المدنيون، أو غير المدنيين، لا قيمة لهم، ومعتقلوه لا قيمة لهم. آلاف السجناء العراقيين، الأفغان، الفلسطينيين، وما أهمية ذلك؟
لا يمكن أن تأتي الأهمية إلا من العالم الثالث نفسه، من إداراته، من منظماته السياسية، من خروجه من قوقعته الطائفية والعنصرية، التي تجعل الفرد لا قيمة له في نظر أسياده الطبيعيين. القيمة الإنسانية عنصر أساسي في النضال في التحالفات، في بناء المجتمع، في عمل الإدارة مسؤولية الفرد.
سجين غوانتانامو، ربما لا ترضى عنه إدارة بلده، ربما هو إرهابي فعلاً، ولكنه مواطن لبلده، وبلده المفروض أن يحاكمه لا الإدارة الأمريكية، ويجب أن تعمل إدارة بلده على استعادته. طبعاً سجن غوانتانامو بالمناسبة هو سجن سياسي وليس سجناً جنائياً، فالسجن الجنائي هو موضوع آخر.
الحريات السياسية والعامة ليست هي فقط بالنسبة للأفراد، وإنما هي للإدارات أيضاً، فالإدارات التي تسجن وتعذب مواطنيها بشكل عشوائي، إنما تسجن نفسها أيضاً، فالشعب يغضب عليها آجلاً أو عاجلاً، وإذا لم يستطع استرداد الحكم فيها، فإنه يجعلها سجينة واقعياً، لا تستطيع الظهور أمامه. علاقتها به أمنية فقط.
السياسة الاستعمارية تضعف إمكانات الإدارات الثالثية في فتح المجال أمام الحريات السياسية والعامة، وذلك بفعل عاملين، الأول هو إقحام تلك الإدارات في مخططاتها، وهذا بجد ذاته يخلق تباعد بين الإدارة والشعب، والثاني بتفعيل المعارضات الداخلية في البلد الثالثي، وهذا يخلق التوتر الداخلي، الذي من نتائجه كبت الحريات السياسية والعامة.
غير أن ما لم تتعلمه الإدارات، وقيادات التنظيمات السياسية، هو أنه بمقدار ما تبتعد عن المصالح البعيدة المدى للشرائح الاجتماعية العمالية والفقيرة، تغرق في مستنقع الصلة المتعددة الوشائج بالسياسة الاستعمارية. وهذه تصطاد الإدارة أو تصطاد القيادات التنظيمية مثلما يصطاد العنكبوت فريسته.
الابتعاد عن الطبقة العاملة، أي عن مصالحها البعيدة المدى، هو في نفس الوقت سقوط في الشبكة العنكبوتية للسياسة الاستعمارية. ومن هنا كل المصائد. لا يمكن للإدارة أمر للقيادات الاجتماعية فرض القيمة الإنسانية للمواطن الثالثي، إلا إذا انسلخوا عن الشبكة العنكبوتية المذكورة أعلاه.

إذا عدنا إلى المنطق الاستعماري المقلوب بأن جندياً إسرائيلياً أسيراً هو أهم من آلاف المعتقلين وآلاف القتلى وآلاف البيوت المهدمة وآلاف الدونمات من الأرض المجروفة أو المحروقة، فإن تغيير ذلك المنطق لا يكون فقط بأسر جندي أو أكثر، وإنما أيضاً بنضال طويل يجعل الهدف أبعد من تحرير الأسرى، وأبعد من صد العدوان من العسكرية الإسرائيلية أو من الإدارة الأمريكية، يجعل الهدف هو فرض ندية تجاه المعتدين، فلا يجرؤ هؤلاء بعدئذ على ارتكاب العدوان. وهذا الهدف يتطلب إضافة إلى مواجهة المعتدي احترام الإدارات الثالثية والقيادات الاجتماعية في العالم الثالث للقيمة الإنسانية للإنسان، للقيمة الإنسانية للمواطن، للقيمة الإنسانية للمناضل، وهذا ليس كلاماً، وإنما يتجسد في الواقع في تساوي جميع المواطنين في مختلف المجالات الاجتماعية، فلا يحتقر الفقير لأنه فقير، والضعيف لأنه ضعيف، ويعزز الغني لأنه غني، والقوي لأنه قوي.
النضال يصهر جميع المواطنين في بوتقته، ومن المفروض أن يؤدي ذلك إلى تغيير اجتماعي عميق. لكن لا، لقد ناضلت الجزائر سنوات طويلة ثم انتكس المجتمع بعد الحرية فحلت الكوارث نتمنى أن يتغير الأمر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
281