الأكراد، والشيوعيون، وأمريكا..

فتح المقال الأخير للأستاذ علي الجزيري المعنون بـ(النهج البائس، في سلوك المتقاعس.....) والمنشور في عدة مواقع الكترونية، الباب عريضا على جملة قضايا تتعلق بالمشهد السياسي الشرق أوسطي، وخاصة الرقم الكردي في المعادلة الإقليمية ضمن الظرف الراهن واحتمالات تطور الوضع، وموقف بعض القوى الشيوعية في (سورية والعراق) من القيادات الكردية، والعلاقة مع الولايات المتحدة، ولا ينسى الأستاذ علي أن يتحفنا ببعض الفتوحات الفكرية المتعلقة بالايدولوجيا والتي راجت بعد انهيار النموذج السوفييتي والتي تخلى عنها أصحابها .

كل ذلك ردا على مقالة لأحد روّاد الحزب الشيوعي العراقي (آرا خاجادور) منشورة في العديد من المواقع الالكترونية، ومنها صحيفة قاسيون الشيوعية السورية.
ومساهمة منا في مناقشة هذه القضايا التي تتعلق بشعب كان ومازال ضحية على مذبح المشاريع الدولية، والتجاذبات الإقليمية، والأنظمة المتعاقبة، والأخطاء الإستراتيجية لقياداته، سنحاول مناقشة بعض آراء الأستاذ الجزيري مع التذكير بأن الخلاف في الرأي لايفسد للود قضية.
●  من إحدى أكبر إشكاليات الفكر القومي المعاصر ( العربي، والكردي ....) هو محاولة اختزال شعب ما في قياداته ورموزه، فالقائد هو الأمة، والشعب، والوطن، والقضية.. هذا ما دأب المثقف القومي على ترويجه، وتسويقه في الوعي الجمعي، وبالتالي فان أية ملاحظة أو انتقاد يوجه إلى زعيم ما هو هجوم وتآمر على القضية وفق هذا المنطق، فإذا اختلفت مع الراحل عبد الناصر فأنت ضد الوحدة العربية، وحسب هذا الوعي القومي البائس في نسخته الكردية، إذا كان لديك موقف من الأستاذ جلال الطالباني فأنت ضد الأكراد، ومن عملاء النظام السابق...، وعقدة هذه الرؤية ومأزقها أنها تضر بالقضية المعنية بالدرجة الأولى قبل أن تضر بأي شيء آخر إذ تحمّل القضية مسؤولية سلوك القيادات التي قد تخون أو تخطيء، وتغلق باب النقد والاختلاف الذي طالما يجتره الخطاب القومي ليل نهار، والذي هو أحد ضمانات أي فعل سياسي جدي، وخاصة إذا كان متعلقا بقضية شعب، حاضره، ومستقبله. وبناء عليه فإن موقف الرفيق الشيوعي العراقي (آرا خجادور ) هو ليس هجوما على الأكراد كشعب له قضية كما يوحي الأستاذ علي الجزيري، بل قراءة مختلفة عن قراءة القيادات الكردية الحالية للوضع العراقي عامة والكردي منه على وجه الخصوص..
● كثيرا ما يطرح بعض الأغرار في السياسة  أن موقف الشيوعيين من الولايات المتحدة ومن يتعامل معها يندرج تحت إطار التناغم والتوافق مع الأنظمة الحاكمة، ولا نظن أن الأستاذ علي من هؤلاء السذج كونه شيوعيا سابقاً، وقارئاً نهماً ومتابعا دؤوباً ويعرف الخلفية الفكرية والسياسية لموقف الشيوعيين من كل مايمت إلى الرأسمال ومشاريعه بصلة، ولأنه يكرر مع الأسف تلك الآراء، - ولا ادري لماذا؟ نجد من المفيد تذكيره، لاسيما وأن الكثيرين أصيب بمرض فقدان الذاكرة في ظل هيمنة الفكر اليومي.. أن الفكر الماركسي هو النقيض الموضوعي للايدولوجيا الرأسمالية، والمهمة التاريخية للمشروع الماركسي هي إنهاء استغلال الإنسان للإنسان، وبالتالي اضطهاد شعب لشعب، أي القضاء على الرأسمالية كنظام استغلالي، ولأن الامبريالية الأمريكية اليوم تمثل رأس حربة الرأسمالية، فإنه لا معنى لوجود الشيوعي إلا إذا كان ضد المشاريع الأمريكية، ومن هنا فلا علاقة لموقف الشيوعيين من الامبريالية الأمريكية، أو من يتعامل معها سواء كانوا كردا، أو عربا، أو أتراكا، أو إيرانيين.. بموقف الأنظمة هكذا كان موقف الشيوعيين منذ أن كان ميشيل عفلق في أحشاء أمه، ومنذ أن أ صبح الشيخ أسامة عميلا لـCIA  لمحاربة الشيوعية الملحدة، وهكذا هو الآن، وهكذا كان موقفهم عندما تآمر الأمريكان أو النصف الآخر من المزبلة الرأسمالية  (الانكليز والفرنسيين) لمرات، ومرات ضد الأكراد وشعوب المنطقة بدءا من سايكس – بيكو، ومرورا بالقضاء على جمهورية مهاباد، والحرب على البارزانيين، وتهجيرهم  في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، وثورة أيلول، واتفاقية الجزائر، وهكذا كان موقفهم عند ما كان (رامسفيلد) في ضيافة صدام حسين بينما كانت الأسلحة الكيماوية تداعب أجساد، وأرواح أبناء حلبجة، وهذا كان موقفهم عندما صدق البعض وعود الأمريكان بإسقاط الطاغية عام1991ولم يسقطوه فكانت الهجرة المليونية الديمقراطية!
وكما أسلفنا فإذا كان البعض يردد معزوفة الأنظمة والشيوعيين، ويربط بين الموقفين لأن كل متابعاته السياسية لاتتجاوز ثقافة الغرف المغلقة، أو مقالات ملثمي الانترنيت، وهذا مالا ينطبق على الأستاذ علي كمثقف متابع للشأن السياسي والثقافي منذ عقود، والذي يعرف تمام المعرفة أن هذا الموقف ليس موقف الشيوعيين وحدهم، وإن كانوا روّاده بكل فخر، ويكفي لمن يريد التوسع في هذا المقام أن يعود إلى كتابات معظم رواد الحركة القومية الكردية، وقادة الانتفاضات والثورات الكردية ليجد أغلبهم إن لم نقل الكل متفقين على عدم الثقة لا بأمريكا، ولا بإنكلترة، وبمشاريعهما، وليكتشف ببساطة كم مرة تآمر هؤلاء على الشعب الكردي، ومن كان يريد القفز فوق هذه الحقيقة
إما أنه قاصر معرفيا، أو أنه يريد محو الذاكرة الكردية، والتنكر لمحمود الحفيد، وقاضي محمد، والملا مصطفى، وقاسملو، وجكرخوين، فهل هؤلاء أيضا وعاظ السلاطين يا أستاذ علي؟ أم أنهم أدركوا وبالتجربة الملموسة لأكثر من مرة أن الثقة بطواغيت الحرب والنهب في الدول الرأسمالية هو وهم، وقبض للريح؟
● إذا كانت وجهة النظر الأخلاقية تفترض التعاطف مع الضحية كما يقول الأستاذ علي، وذلك في معرض دفاعه عن القيادات الكردية في العراق، وهو محق في ذلك بكل تأكيد من حيث المبدأ، ولكن ليسمح لنا بالقول: إن تلك القيادات لم تعد قيادات مطاردة في الجبال والمنافي  كما كانت، بل إنهم أصبحوا في رأس هرم السلطة، ومن أصبح في السلطة لم تعد تنطبق عليه صفة الضحية، لا بل من غير الأخلاقي عدم انتقادها وكشف عيوبها وأخطائها لاسيما، وأنه في هذا العهد وقع الكرد في مأزقين استراتيجيين:
1 ـ عدم ترتيب البيت الداخلي الكردي، الشرط الضروري والاستراتيجي لنجاح أي حركة تحرر والذي تجلى بـ:
• الاقتتال الداخلي الكردي – الكردي والذي لم تنته تداعياته حتى الآن.
• قمع النشاط الاحتجاجي الجماهيري على سوء الأوضاع المعاشية والاجتماعية، وإطلاق الرصاص الحي عليهم في العديد من المدن بما فيها  حلبجة رمز المأساة الكردية في العصر الحديث ... هل أنت مع الضحية هنا يا أستاذ علي أم مع الجلاد؟ مع العلم أن الطرفين من الكرد؟ أم ستردد مع من رددوا المعزوفة التاريخية للأنظمة الشرق أوسطية بأن المحتجين متآمرون وعملاء جهات خارجية ؟
2 ـ  العلاقة مع الشعوب المجاورة: ما لاشك فيه أن الشعب الكردي لعب دورا تاريخيا مع الشعوب الأخرى في المنطقة في النضال من أجل التحرر، والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، وتعمد هذا الدور بالدم في الكثير من المنعطفات التاريخية المعروفة، ولم تستطع أبواق الأنظمة على مدى العقود الماضية التغطية على هذه الحقيقية، ولكن ما لاشك فيه أيضا أن ملاحي السفينة الكردية، يديرون ظهورهم اليوم لكل ذلك التراث، وتمادى البعض في أوهامه وصولا إلى الترويج للاحتلال والمشاريع الأمريكية الجديدة، وصولا إلى تكون نسق ثقافي على يد -وعاظ السلاطين - من بعض المثقفين يؤدلج ويبرر التدخل الخارجي، ويسخر من كل فعل مقاوم ، ويزاود حتى على الخطاب الرسمي الأمريكي في قراءة الواقع، فرغم ان بوش  يسمي وجوده في العراق احتلالا، يصر رهط من المثقفين على تسميته بالتحرير، ورغم عشرات التقارير الأمريكية والغربية واعترافات رسمية
بالمأزق الأمريكي في العراق، مازال البعض يبشر بالديمقراطية الموعودة، والأنكى من ذلك من لايتفق مع هذا الرأي يمارس ضده إرهاب إعلامي وتسوق ضده الأكاذيب والافتراءات (عميل صدام -أصولي - إرهابي -  عميل السلطة، ضد الأكراد...) إلى آخر ما يحفل به الخطاب  الاتهامي التخويني التضليلي، والذي هو تكرار مقلوب على رأسه لخطاب - وعاظ - أنظمة النهب والاستبداد في المنطقة، التي دأبت خلال المرحلة الماضية على اتهام كل المختلفين معها بالعمالة للامبريالية والصهيونية... كل ذلك اصطدم بمصالح، ومشاعر وأحاسيس وثقافة شعوب المنطقة، التي ترفض المشاريع الاستعمارية، لاسيما  وأن الوجه الآخر من عملة التعصب القومي  (العربي) الأعمى، هو الآخر يحاول وبلغة تعميمية منافقة أن يسبغ على التعاون مع الاحتلال هوية قومية - كردية– أو طائفية (شيعية) عبر زعبرة فضائيات البترودولار (الديمقراطي) لتسوق في الأوساط الشعبية وعيا مفاده أن المشكلة مع الأكراد، أملا في خلق اصطفافات مشوهة، وثنائيات وهمية  متصارعة (عرب أكراد) – (سنة وشيعة) وذلك للتغطية على العدو الرئيسي سواء كان المحتل، أو عرابي مشاريعه من الكومبرادور المحلي وبطانته داخل الأنظمة وخارجها.
وكما أثبتت الحياة فإن الأنظمة كانت واهمة في المرحلة الماضية في قدرتها على إنكار وجود الشعب الكردي، نتمنى ألا يتوهم أحد بأنه من الممكن أن يحصل الأكراد على حقوقهم دون تفهم شعوب المنطقة لهذا الحق، وهو الأمر الذي لايمكن أن يتم من خلال وضع البيض في السلة الأمريكية، والواقع الموضوعي الذي تحدده الجغرافيا السياسية، والمصالح المشتركة. والانتماء إلى ذات البنية الثقافية يقول: إنه لايمكن لشعب من شعوب المنطقة أن يشق طريقه إلى فضاءات الحرية والديمقراطية بمعزل عن الآخر، ومن هنا فإن كل ما من شأنه أن يعكر العلاقة بين شعوب المنطقة هو ضرر للشعب نفسه سواء كان ذلك بالتخندق خلف أنظمة مستبدة ، أو بالتخندق خلف المشروع الأمريكي.
دأب بعض المثقفين الكرد في سورية خلال السنوات الماضية، وفي سياق قراءة الواقع الكردي على محاولة تقديم الحركة الشيوعية على أنها أحد خصوم الشعب الكردي، وبعد التدقيق في الأسماء، والمستوى المعرفي  يمكن أن نفرز هؤلاء إلى قسمين:
1 ـ قسم له عداوات تاريخية مع الشيوعيين على خلفية انتمائهم الطبقي (الإقطاعي)، ويركبون الموجة القومية كوسيلة للانتقام من الشيوعيين، بعد أن تمخضت النضالات الفلاحية في ريف الجزيرة  (وأغلبها بقيادة الشيوعيين) عن لجمهم من التحكم بجهد وعرق وأعراض وممتلكات الفلاحين ... ومن الناحية السياسية المجردة، نبرر لهؤلاء موقفهم، فهم يدافعون عن مصالحهم، وموقفهم مفهوم تماما، وإن كانوا يمارسون النفاق السياسي تحت العباءة القومية، والمشكلة في جانب منها ليست معهم بل عند من يصدقهم ويجتر كلامهم.
 2 ـ قسم آخر امتهن الانتقال المكوكي من موقف إلى موقف، ومن موقع إلى موقع، حسب ميزان القوى، مرة شيوعيون وماركسيون متشددون، ومرة قوميون أقحاح، وثالثة منهمكون في فساد  السلطة، ورابعة يغازلون المراجع الدينية، أما عن إنجازاتهم في الحداثة والعلمانية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فحدث ولاحرج ؟! كل ذلك انعكاس لأزمة في الوعي تقودهم إلى قراءة الواقع على أساس ما هو ظاهر على السطح فقط، دون تحليل هذا الواقع كشرط ضروري لأية قراءة علمية بغية الوصول إلى استنتاجات، وبالتالي إلى مواقف صحيحة، هؤلاء ولكي يبرروا هذه الزكزاكية في الموقف نجدهم ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وقد عمدوا إلى تشويه تاريخ الحركة الشيوعية عبر تدبيج مئات المقالات التي هي مزيج من الجهل والتزوير والافتراءات التي لاتمت إلى حقائق العلم والتاريخ بصلة.
إن موقفنا السياسي وواجبنا الأخلاقي، ومنعا لتعكير الأجواء والاصطياد فيها يدفعنا ختاما إلى التأكيد على أن الشعب الكردي مثله مثل غيره من الشعوب من حقه أن ينعم بكل حقوقه، والمشكلة ليست مع المبدأ بحد ذاته، بل مع هذه المرافعات السيئة التي تقدم دفاعا عن قضية عادلة، والخلاف هو مع من يحاول أن يدفع تضحيات الشعب الكردي إلى مسارات خاطئة وبالضد من مصالحه الإستراتيجية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
285