ولكنها تدور..
يشبه النقاش حول الأزمة في سورية إلى حد كبير ذلك النقاش الذي دار بين غاليللو ومعاصريه من رجال محاكم التفتيش حول مسألة دوران الأرض حول الشمس.. يريد الكثيرون للأزمة أن تنتهي سريعاً، ولذلك يتسرعون في إطلاق الأحكام عند كل نقلة جديدة.. فيقفز كل طرف ليدعي « خلصت» وذلك طبعاً من وجهة نظره ووفقاً لمصلحته في محاولة مستميتة من الطرفين للملمة مناصريه ومؤيديه.. سواءً كان النظام بهروبه إلى الأمام، أو بعض أقسام المعارضة. ويبقى الشارع السوري مختنقاً بتداعيات الأزمة وتجلياتها يمني النفس بأسرع خروج ممكن منها يوقف عذاباته وخسائره التي تزداد يوماً بعد يوم..
تبرز خطة كوفي عنان كنقلة جديدة في الصراع الراهن يصورها البعض على أنها الأخيرة، ومن الواضح للجميع أن هذه المهمة صعبة وتعكس تناقضاً في الوضع الدولي بين مرحلتين وفضاءين: من جهة القديم المتمثل بقطب أوحد أوصلته تناقضاته إلى النهاية المحتمة، وهو إذ لم ينته فعلياً على أرض الواقع فإنه يعارك يائساً في سبيل البقاء والاستمرار، ومن جهة أخرى الجديد الذي لما يتبلور بشكله النهائي بعد وما يزال يعاني مخاض الولادة العسير.
يمكن اعتبار مهمة عنان المرحلة الثانية بعد بعثة مراقبي الجامعة العربية والتي كانت تسعى آنذاك لفتح باب التدخل الخارجي، وهي ورغم أنها لم تنجح بالوصول إلى أهدافها كاملة إلا أنها سمحت للتدخل الخارجي بالاستمرار بشكله غير المباشر، وبقدوم عنان فإن التدخل لم يتوقف ولكنه اخذ شكلاً جديداً ضمن توازنات يتم فرضها على الأرض. وإذا كانت مهمة عنان تمثل نقطة التقاء وتوافق دولي بين الأطراف المتعددة فإنها نقطة تلاق شكلي فقط لا غير يعمل كل طرف من الأطراف للاستفادة منها وفقاً لمصالحه..
ليس هناك أي شك أو توهم أن الأمريكان قد غيروا أو من الممكن أن يغيروا أهدافهم الرئيسية خاصةً وهم يلعبون في الوقت الضائع محاولين الخروج من أزمتهم المستعصية، ويمكن تأسيساً على ذلك أن يلجؤوا لتغيير تكتيكاتهم المؤدية للنتائج نفسها، هذا ما دفعهم للعمل بشكل متواز على محورين الأول هو العنف وإدامة الاشتباك والثاني هو التفاوض عن طريق الحوار، وهم مضطرون موضوعياً إلى تفويض أمر المحور الأول لوكلائهم في المنطقة (قطر، السعودية وتركيا) من خلال زيادة التوتر واستمرار العنف باستخدام وسائل عديدة ليس أقلها الإعلام وتسليح المعارضة ليجنوا ثمارها في المحور الثاني (الحوار والتفاوض) خاصة بعد التغير في ميزان القوى والذي غير معه شكل الحوار وأدواته، فقد أضاع النظام فرصة تاريخية عندما أدار ظهره لما أسفر عنه اللقاء التشاوري من توصيات، التي لو نفذت في حينه لاستطاع إدارة دفة الحوار بيديه أولاً، ولكان حواراً سورياً خالصاً بين أطراف سورية ثانياً، أما الآن فقد تغير الوضع موضوعياً وزادت احتمالات تدويل الحوار وفتحه لتتدخل فيه أطراف كثيرة بينها أطراف غير وطنية، وتعززت مواقف الكثير من القوى على حساب مصلحة البلاد في حل الأزمة.
أصر غاليلو على موقفه رغم خوفه الأولي، وأكد أن الأرض تدور، ودفع ثمن موقفه الصحيح الذي أثبتته الحياة لاحقاً، وما يزال البعض متشبثاً برأيه، ويعتقد أنه يمكن حل الأزمة السورية بمعزل عما يحدث في العالم، واهماً أحياناً وموهماً الآخرين في كثير من الأحيان أنه قادر على فرض شروطه، وهو لا يريد أن يفهم أن الأزمة في سورية مستمرة بعد أن وصلت الى ما وصلت إليه، ولا يمكن حسمها ضمن الشروط المحلية أو حتى الإقليمية فقط، وأنها تعبير عن حالة الانتقال إلى ما هو جديد نوعياً وأن استمرارها وحسمها واتجاهها لاحقاً مرتبط بالوضع العالمي ككل والحسم فيه، ولا يمكن لأي قوة سياسية داخلية مهما كانت قوية أن تنجز هذا الحسم منفردة، وينحصر دور القوى الداخلية في تهيئة ميزان القوى الداخلي وتغييره في الاتجاه الذي يسمح بأخذ سورية إلى الأمام حين يستقر الوضع الدولي الجديد، إن القوى السياسية التي ستساهم بتفعيل ميزان القوى الداخلي بهذا الاتجاه هي وحدها من سيتمكن من الانتقال مع الشعب السوري إلى سوريته الجديدة..
وهو ما سينعكس على هذه القوى نفسها لاحقاً.. إذ بمقدار ما ستنجزه على هذا الصعيد فهي ستكون هامة وأساسية في الفضاء السياسي الجديد الذي بدأ بالتكون.