مداخلة الرفيق د. قدري جميل

 وفي إطار النقاش العام في الاجتماع الوطني لوحدة الشيوعيين السوريين، تحدث الرفيق د. قدري جميل قائلاً:

فعلاً أود أن أشكر كل من سبقني بالحديث من عن هذا المنبر لأن الحوار بحد ذاته بالنسبة لنا هو تجريب لأفكارنا، على أرض الواقع، وسنرى هذه الأفكار كيف ستتدقق وتعدل وتطور ونؤكد بعضها حسب كل فكرة، وهذا ما يرفع لياقتنا. ولاحظت أن الشباب سعداء بوجودهم هنا لأن في الجلسة (عراك).

ونحن عبر الصراع في الحوار نعيد بناء حركتنا وننتهي من مرحلة الصراع من أجل الصراع، لذلك إذا استطعنا أن نتقدم  بخطوات من زاويتنا المعرفية سيكون ذلك أمراً جيداً. وإذا استطعنا أكثر من ذلك أن نتقدم من بعضنا البعض خطوات ولو أقل فذلك أيضاً أمرٌ لابأس به.

على حافة نقطة الافتراق

1- أنجلز بالقرن التاسع عشر، بأيام لم تكن الرأسمالية قد بلغت ذروتها بعد (1895)، قال جملة لحد الآن كلما أكررها تذهلني: «إن أي خطوة إلى الأمام تقوم بها الرأسمالية في مجال تطور القوى المنتجة هي خطوة للوراء بالنسبة للإنسان وبالنسبة للطبيعة»... انظروا كم حلق في ذلك الأوان، وكأنه ينظر إلى اليوم. لذلك نحن برؤيتنا وتحليلنا للرأسمالية، نتجنب الحديث المجرد عن تجديدها لنفسها وقدرتها من خلال هذا التجديد على التكيف، لأنه دائماً وراءنا ظل إنجلز في هذا الموضوع، وهو ما يجعلنا نطرح هذا السؤال الدائم على حساب ماذا تجدد الرأسمالية بنفسها. هذه القضية الأولى تحتاج إلى تثبيت بالنسبة لنا. من هذه الزاوية نحن مستمرون دون تفاؤل رومانسي فارغ بمسألة النضال ضد الرأسمالية، ونرى أن احتياطاتها بقدرتها على تجديد نفسها قد استنفدت. أن تطور الرأسمالية سيصل بنا إلى تلك اللحظة التي تنبأ بها شيوخنا الكبار وهي أن تطور الرأسمالية سيصل بنا إلى نقطة افتراق هي إما اشتراكية أو بربرية.. ألا تلاحظون أننا عند نقطة الافتراق هذه وعلى حافتها؟

الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية 

2- بالنسبة للاشتراكيين، من يعود إلى الكلاسيكيين بالمناسبة يكتشف أنهم من الناحية النظرية تنبؤوا بإمكان انهيار التجارب الأولى، وما يمكن أن نضيفه على ما اكتشفوه أن التجارب الأولى التي انهارت هي  مادة خام جيدة للتجارب اللاحقة، لذلك لا أعتقد موضوع لينين وقضة الاشتراكية في بلد واحد فشلت، لأنها قامت بعملية لا رجعة عنها في القرن العشرين والواحد والعشرين. هذه العملية هي سمة العصر، رغم كل الهزائم والتراجعات الأخرى.

سمة العصر لاتزال الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ببساطة لأن الرأسمالية لم تعد تملك أي إمكانية لتطوير القوى المنتجة إلا على  حساب الإنسان والطبيعة، والبديل الوحيد والحقيقي لمصلحة الناس هو الاشتراكية، وعلى الأقل، إن لم تقدم لنا الاشتراكية الأولى سوى هذه السمة، لا نستطيع أن نقول أنها فشلت، كيف إذا أضفنا لذلك تغيير ميزان القوى العالمي الذي قامت به، على الأقل انهيار النظام الاستعماري القديم ونشوء النظام الاستعماري الجديد وعدم قدرة الاستعمار الجديد بالنهاية على الاستمرار إلا بالعودة لاستخدام الأشكال القديمة التي نراها اليوم تتجلى بما يسمى النظام العالمي الجديد والعولمة.

ذلك كله دليل ضعف المنظومة التي نواجهها، وهذا كله دليل أن المنظومة التي قيل عنها أنها انهارت مازالت مستمرة ومازلنا نستند إليها إلى هذه اللحظة.. ونستند إلى إنجازاتها في التقدم اللاحق الذي سنحققه.

استحقاقات العولمة

3- حول العولمة: الذين يتحدثون عن العولمة يتحدثون عن قرية، أليس كذلك؟ نحن عندما نتحدث عن العولمة، ألا ترون أن خط المواجهة معها ليس خطاً من الخارج بل في الداخل؟

خط مواجهة قوى العولمة خط يمر عبر القضايا الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية والوطنية؟

هنا لم يعد هناك حدود بالمعنى الأول لكلمة حدود، لذلك عندما نتحدث عن العولمة واستحقاقاتها نقصد فعلاً أن نربط تلك المفاهيم السابقة (الداخلي والخارجي).

ممكن أن تكون هذه الثنائية خطأ والحديث فيها من أوراق الماضي عندما نتحدث عن العولمة اليوم، نتحدث عن كل الاستحقاقات التي بين أيدينا..

منظومة مصالح

4- لماذا النظرة الطبقية؟ النظرة الطبقية، كما تعلمنا المقصود فيها هي النظرة الموضوعية الواقعية. هنا الطبقات واقع موضوعي، لكن شتان ما بين النظرة الطبقية التي هي أداة في التحليل ومابين المصلحة الطبقية.

غورباتشوف بالمناسبة لعب هذه اللعبة، عندما تكلم عن أولوية المصالح الإنسانية على المصالح الطبقية.

لعب لعبة (كاشاتبين) وخلط ما بين النظرة الطبقية والمصلحة الطبقية، وقال بأولوية المصالح الإنسانية مع أنه حتى إن كان هناك أحياناً أولوية للمصلحة الإنسانية فهي نتاج للرؤية الطبقية.

وإذا كانت الأولوية للمصالح الوطنية فهي أيضاً نتاج رؤية طبقية. وإذا قررنا بلحظة من اللحظات بقضية من القضايا بأن الأولوية للمصالح الطبقية فهي أيضاً نتاج نظرة طبقية. لذلك نحن نملك منظومة مصالح: قومية، إنسانية، طبقية، إلخ..

هذا كله يتم عبر نظرة طبقية كي نصل لنتيجة سليمة.

النظرة الطبقية هي طريقة المعالجة، طريقة رؤية الواقع وعلى أساسها ننتج منظومة المصالح. هذا الإشكال يزول إذا ما عالجنا المسألة من زاوية المستويين:

مستوى مفهوم المنظار أو النظرة أو طريقة الرؤية.

المستوى الثاني هو مسألة المصالح.

بين النظرية والتطبيق

5- كل ماتكلمناه يبقى كلاماً فارغاً دون ممارسة، صحيح أن الرؤية المعرفية تساعد على الممارسة لكن إذا بقيت تدور حول نفسها فإنها لاتستطيع أن تجدد حتى نفسها، لذلك مشكلتنا بالحركة السياسية في البلاد وبسبب ضعف أحزاب الجبهة وسبب ضعف الحركات السياسية هو الانفصال التام بين القول والفعل.

السؤال الدائم الذي يشغلنا هو كيف سننتقل بمنظومتنا الفكرية السياسية هذه إلى مجال الممارسة ومجال الواقع لإعادة الناس للسياسة. هذه القضية تشغل بالنا ونقوم بتجارب ومازلنا نخطئ ونصيب. ونتقدم للأمام، أكثر من غيرنا بكل صراحة، وبدون مبالغة، وقطعنا شوطاً في هذا المجال ـ وهو غير كاف ـ لذلك فعلاً مشكلتنا كيف سنتحول من القول إلى أرض الواقع.

من هنا سأنتقل إلى الخصوصية في دول العالم الثالث وسورية ليست خارجة عنها. الحديث عن الاستبداد صحيح، لكن أيها الرفاق الماركسيون واليساريون، ألا ترون أن الحديث عن الاستبداد دون الحديث عن البنية التحتية التي تتمثل بالنهب دون ربطهما ببعضهما البعض كناتج ومنتوج هو أمر غير كاف، العلاقة بينهما تطرح سؤالاً من الذي أنتج الآخر؟ من خلال دراسة عميقة لوضع بلدان العالم الثالث نرى ونصل فعلاً للاستنتاج الذي نؤكد عليه بأن جميع المهام مترابطة.

الاستبداد له علاقة بالبنية الفوقية للنظام السياسي الذي كان يمارس من بداية الستينات بعد انتهاء عملية نهوض حركة التحرر الوطني من أندونيسيا (التي ذبح فيها مليون ونصف شيوعي) للعراق للمغرب لأمريكا اللاتينية...إلخ..

وهذا النظام أو المنظومة السياسية، مامهمتها؟

ألم تكن مهمتها حماية نظام النهب الذي شاركت فيه الاحتكارات الكبرى مع النخب المحلية التي تحولت لمافيات وهو تعبير صحيح.

الديمقراطية والقضايا الاقتصادية ــ الاجتماعية

6- ننتقل إلى الممارسة/الفعل: مثلاً من أجل الديمقراطية وضد الاستبداد؟

شعار صحيح، لكن على أرض الواقع؟ لايحرك إلا النخب، وبآن واحد ألا تلاحظون أن القضايا المطلبية قضايا يجب أيضاً العمل عليها. وهي تحرك وسط واسع وكبير.

ألا تلاحظون أن بعض القوى التي مازالت تدور حول قضية واحدة هي الديمقراطية لم تستطع الخروج إلى قضايا أخرى حياتية اقتصادية ــ واجتماعية، ومازالت معزولة.

هذه هي المشكلة التي تتطلب العلاج.

نحن لانقول أن كلامنا منزل من السماء ولا نقول أن ممارستنا هي الصحيحة، فنحن نشق الطريق، ونقول أن هناك ترابطاً بين جميع هذه المهام لذلك على مستوى الممارسة والنظرية تحتاج هذه القضايا إلى تدقيق.

شعار الاستبداد دون ربطه بالنهب لا يحرك أحداً، لايحرك أحداً، الناس تحركها لقمة الخبز، لذلك يجب أن نربط بشكل ديالكتيكي بين مختلف هذه الجوانب ونظهر خطرها على القضية الوطنية، وعلى المصلحة الوطنية.

أعتقد أن هذه الرؤية لابد من التفاهم عليها ولاننزعج من بعضنا حينما نتكلم بصراحة بهذه القضايا.

ممكن أن تنتقدونا وتقولوا إننا مقصرون بالممارسة بالنسبة للقضية الديمقراطية، ولكن أنتم مقصرون بالقضية الاقتصادية ــ الاجتماعية بل حتى غير واضحين فيها.

ثنائية (النظام والمعارضة) 

7- الآن تطرح مثلاًَ ثنائية (نظام ومعارضة) برأينا هذه الثنائية وهمية، لأنه بالنظام توجد قوى تشبه المعارضة، وبالمعارضة هنالك قوى تشبه النظام. خط الفصل وإعادة تكوين الفضاء السياسي لم يتم، لم ينجز في سورية، لذلك إذا أردت أن (أحك) هذه القوى من زاوية المصلحة الاجتماعية والنظرة الطبقية أحك بعض قوى المعارضة فأجدها تدافع عن برنامج قوى السوق، أحك بعض قوى النظام أراها تدافع عن البرنامج نفسه. الا يحق لي أن أتساءل: أولئك ما الذي يجمعهم؟

أتطلع إلى بعض قوى النظام فأراها تعمل ضد قوى السوق، أتطلع إلى بعض قوى المعارضة فأراها تعمل أيضاً ضد قوى السوق، أليس هنالك شيء مشترك؟

لذلك نحن نقول: في الوقت الذي يعاد فيه تكوين الفضاء السياسي في البلاد بنى سياسية بكاملها تنهار، وبنى أخرى تنشأ، عندها سؤال، أنتم مع من؟ مع المعارضة أم مع النظام؟. لا معنى له حتى من الناحية المعرفية، فكيف من الزاوية العملية.

نحن لسنا مستعجلين، مازلنا نصوغ خطنا، نصوغ سياستنا، وننتظر من الانعطاف الجاري في المنطقة وفي البلاد، أن يستكمل فرز تلك القوى الحاملة للبرامج الواضحة. أ. سلامة كيلة يرى أننا لا نمتلك برنامجاً. أنا موافق أن كل خطنا يقول (لانريد) ولكن (لا نريد) أليس برنامجاً أيضاً. 

ملامح برنامجنا تتوضح شيئاً فشيئاً على أرض الواقع. موضوعة أن قوى السوق لا تمتلك برنامجاً موضوعة خاطئة، اقرأوا (نبيل سكر) أحسن برنامج!!

الصحيح أن البرجوازية البيروقراطية لاتمتلك برنامجاً واضحاً، لأنها براغماتية، تعمل على أساس الوضع القائم ونسبة القوى وتغيرها وتحاول أن تتكيف مع برنامج قوى السوق ما أمكن، وتحاول أن تحسن موقعها التفاوضي بإطار برنامج قوى السوق. هي التي لا تملك برنامجاً ثابتاً، برنامجها تحدده نسب القوى الإقليمية والمحلية والعالمية، وهو في تغير.

قوى السوق الكبرى تملك برنامجاً واضحاً وهي عدونا الأساسي الحالي والقادم بالمجابهة، وقوى البرجوازية البيروقراطية في نهاية المطاف بالمعنى التاريخي هي قوى مؤقتة.

الليبرالية الاقتصادية والقمع 

8- السؤال الذي يبقى في النهاية، مسألة الرأسمالية:

نحن في خمسينات القرن الماضي طرحنا مسألة البرجوازية الوطنية ودعمها.

انتقدنا الكثيرون على ذلك، واتهمونا بأننا لم نضع أفقاً اشتراكياً، ومن الممكن أن تقرأوا كثيراً من الأبحاث حول المؤتمر الثاني للحزب.

الآن السؤال الحقيقي ونحن طرحناه، هل هناك إمكانية في أن يكون هناك برجوازية وطنية لها وزن فعال اقتصادياً وسياسياً في العالم اليوم؟ هذا سؤال؟

انظروا في دمشق أو في حلب، هي موجودة ولكن ما وزنها الحقيقي على الأرض؟ إنه يتناهى إلى الصفر، الوزن الحقيقي هو لقوى السوق الكبرى، قوة البرجوازية الطفيلية وحلفائها من البرجوازية البيروقراطية، لأولئك الوزن الأساسي، لذلك السؤال المطروح في ظل العولمة المتوحشة، هل يمكن أن نعود لتلك المسألة التي مضى عليها خمسون عاماً؟

المشكلة أن من كان ينتقدنا حينما كنا نتحدث عن إمكانية البرجوازية الوطنية، اليوم وعندما زالت الإمكانية الموضوعية لنشوء هذه الظاهرة، يتكلم بضرروة إعطاء الرأسمالية حقها بالوجود والتطور لأنها الطريق نحو الديمقراطية!، بكل بساطة!، متصوراً أن تجربة أوروبا خلال مائتي سنة في الليبرالية الاقتصادية والسياسية يمكن تكرارها بالعالم الثالث مع أن تجربة العالم الثالث لم تثبت لنا ولا في مكان، ذلك الطرح.

تجربة العالم الثالث بالليبرالية الاقتصادية أظهرت لنا المزيد من قمع الحريات السياسية. لايوجد ليبرالية اقتصادية بالعالم الثالث مع ديمقراطية، وهذا طبيعي بعصر العولمة، لأنه في عصر العولمة الليبرالية الاقتصادية تعني مزيداً من  نهب شعوب العالم الثالث، أي المزيد من الاستغلال أي المزيد من القمع...

 ولننتبه إلى أن القمع لم يعد بوليسياً بالمعنى الأول، بل معناه أيضاُ احتلال عسكري، وممكن أن تتوسع هذه الحالة أكثر فأكثر.

وحدة الشيوعيين.. وتكوين الحركة

9- حول موضوع وحدة الشيوعيين السوريين:

وإذا أردتم الحقيقة نحن نرى أن وحدة الشيوعيين السوريين مرادفة لعملية تكوين الحركة، وحدة الشيوعيين لا يمكن أن تمر إلا عبر القضاء (بالمعنى السياسي) على عقلية القيادات المتنفذة. لايمكن ولا يوجد طريق آخر، ممكن أن تزعج هذه الحقيقة البعض، لكن مامعنى القضاء السياسي عليها؟

يعني كشفها وفضحها والطريق مفتوح أمامهم كأفراد إذا أرادوا المجيء إلى الحركة فأهلاً وسهلاً.

 

أما أن نبقي مصير الحركة بين أيديها وبحالة موت سريري لايمكن أن نقبل ذلك، نحن نسير بطريق آخر هو استعادة الدور الوظيفي لحركتنا، الذي سيترافق مع استعادة الدور الوظيفي لكل الحركات الوطنية والسياسية فالعملية ليست منفصلة عن بعضها، لذلك بقدر ما تساعدوننا نستطيع أن نساهم بالمزيد.