أين نجد استثمارات لاقتصادنا الوطني؟!

يكثر الحديث ويشتد النقاش مؤخراً حول كيفية الخروج من الركود الاقتصادي الحالي، وتنشيط الدورة الاقتصادية. ويتفق الجميع على ضرورة زيادة تدفق الاستثمارات إلى شرايين الاقتصاد الوطني. ولكن جواباً على سؤال: من أين؟، تختلف الآراء وتتضارب الاقتراحات، وهذا أمر طبيعي، وهو لا يعكس تباين الاجتهادات من زاوية فنية ـ تكنيكية بقدر ما يعكس تناقض المواقف الاجتماعية، أي لمصلحة من ولحساب من يجب أن تُحل هذه القضية؟!.

 فالذين يريدون زيادة الضغوط على سورية من أجل إضعاف موقفها الوطني، أو على الأقل إضعاف قوة جذبه وتأثيره على النطاق العربي في هذه الظروف الدقيقة التي تشهدها المنطقة، والتي يشتد فيها التآمر الأمريكي ـ الصهيوني، يعملون على منع تعبئة الإمكانات الداخلية لحل هذه القضية، ويصرّون على أن الحل الوحيد هو جذب الاستثمارات الخارجية التي لم تجتذب إلى الآن بالشكل المطلوب رغم كل القوانين التي سُنت، ورغم كل التسهيلات والإعفاءات التي قدمت، وهي تطالب بالمزيد وصولاً إلى حرمان البلاد من سيادتها على اقتصادها ومواردها وعملتها الوطنية، مما سيسهل في نهاية المطاف تنفيذ أهدافهم السياسية النهائية التي لايمكن أن تمر إلاّ عبر إضعاف ونسف دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي التي ستصبح في هذه الحال تحت رحمة شعار: «حرية حركة الرساميل»!.

أما الذين يريدون الحفاظ على موقف سورية الوطني وتوطيده، فهم لا يرون طريقة لحل هذه المعضلة الحقيقية إلاّ بتعبئة كل الإمكانات الداخلية بالدرجة الأولى، الأمر الذي سينشط الاقتصاد الوطني ويرفع من وتيرة نموه ويزيد من مردود الرساميل الموظفة، ويصبح الوضع هكذا بحد ذاته جاذباً للاستثمارات أياً كانت ولكن دون شروط مجحفة بحق اقتصادنا الوطني، ودون أية وصاية أو إملاء.

لذلك يبقى السؤال الكبير: أين هي هذه الإمكانات والاستثمارات الداخلية ، وهل هي كافية، في حال تعبئتها، على حل هذه المشكلة؟!.

يطرح بعض المسؤولين الجديين، والذين لا نشك بإخلاصهم، أن الاقتصاد الوطني بحاجة إلى ألف مليار ل. س سنوياً من الاستثمارات، يمكن أن نجد 200 مليار ل. س منها داخلياً، والباقي يجب البحث عنه في الخارج.

وبغض النظر عن الإمكانية الفعلية لجذب 800 مليار ل. س استثمارات خارجية سنوياً في الظروف الحالية، يجب أن يطرح سؤال: أية وتيرة نمو للدخل الوطني ضرورية اليوم لحل المهمات المنتصبة أمامنا، وعلى رأسها تنشيط الاقتصاد الوطني ورفع مستوى حياة الجماهير الشعبية؟!.

إن التجربة والوقائع تشير إلى أن البلاد بحاجة إلى 10 ـ 15% من نمو سنوي للدخل الوطني لتأمين الدورة الاقتصادية ولحل المشاكل الحالية والمستقبلية، وأهمها مشكلة البطالة.

إن حسابات الاختصاصيين تبين أن 200 مليار ل. س توظيفات داخلية قادرة على تأمين نمو سنوي حقيقي للدخل الوطني بحدود 5% لا أكثر.

بينما لن تؤمن كل الاستثمارات الأجنبية المقترحة بحد ذاتها هذه النسبة بسبب الميزة الأساسية التي ستتمتع بها وهي حرية تحويل أرباحها إلى الخارج.

لذلك إذا أردنا الوصول إلى الحد الأدنى لنسبة النمو الضرورية لدخلنا الوطني لاحقاً وهي 10%، فنحن بحاجة إلى 300 مليار ل. س من التراكم الذي يذهب إلى الاستثمارات، أي إلى ما يعادل 40% من الدخل الوطني المنتج حالياً، وهو حد أقصى يصعب تجاوزه حالياً. فهل ذلك ممكن اعتماداً على مصادر داخلية؟ نعم ممكن، ومصادره الأساسية هي التالية:

1.اجتثاث عمليات النهب غير المشروعة التي يتعرض لها اقتصادنا، والتي تتسبب بإشاعة الفساد بالطول والعرض، والتي يصل حجمها حسب أقل التقديرات إلى 150 مليار ل. س سنوياً، ويمكن أن تتحول بكاملها إلى زيادة حجم الاستثمار.

2.تحصيل الفاقد الجمركي الذي يتبخر بسبب الفساد والذي يصل حجمه إلى نحو 50 مليار ل. س سنوياً.

3.تحصيل الفاقد الضريبي على الأرباح الكبيرة، ويقدر حجم الأرباح الخاصة المتهربة من الضريبة سنوياً بحدود 100 مليار ل. س، بينما العبء الضريبي يتزايد أكثر فأكثر على أصحاب الدخل المحدود وعلى الأرباح الصغيرة وخاصة المنتجة.

4.إن فرض ضرائب معقولة على نصف الدخل الوطني المعفى منها قانونياً، يمكن أن يؤمن سنوياً نحو 50 مليار ل. س كحد أدنى.

إن مجموع هذه المصادر، بالإضافة إلى المصادر العادية المتوفرة، سيؤمن الحد الضروري من التراكم الذي يمكن أن يذهب إلى الاستثمار ويرفع من وتيرة نمو الاقتصاد الوطني، ويحل مشاكل معيشة الجماهير، وتصبح حينذاك الاستثمارات الخارجية، احتياطية لا أساسية، مكمّلة ولا ارتكازية، ويصبح اقتصادنا الوطني قوة ضاغطة لا مضغوطاً عليه، ويؤمن بهذا الشكل سيادة البلاد ويحمي مواقفها الوطنية.

 

إن الركض وراء الاستثمارات الخارجية لتأمين التطور الاقتصادي، هو وهم وقبض للريح، ولن تجني منه البلاد، حتى في حال تحقيقه، إلاَّ الخراب والدمار.