«موضوعات حول الأزمة».. المشكلة في المنهج أم المشكلة في الإجراء؟

مع كل التقدير للجهد النظري المبذول في هذه الورقة، فإن الذي دفعنا إلى محاورتها هو ما لمسناه من خلل ايبستمولوجي «معرفي» تخللها وخلخلها. ولئن لم يكن من مهمتنا في هذا المقام رد الخلل إلى الأصول الناشئ عنها في بنية العقل العربي، فإننا سنكتفي بالتعليق السريع على بعض جوانبها، لنجد:    

القيمة العلمية للورقة تذوب في القيمة الدعائية لها، إذ أنه ورغم الاقتراب من العديد من القضايا الجوهرية دون الدخول في عمقها؛ فإن هذه الأفكار القيِّمة قد تم التعامل معها نفعياً / سياسياً - تكتيكياً، في محاولة إقامة تأسيس نظري لما يُسمى «وحدة الشيوعيين السوريين». 

هذا الغرض النفعي أودى بالقيمة العلمية للورقة، فوصفت - بادئ ذي بدء - حالات الانقسام في الحزب بالأزمة. ومن المعروف أصولياً أن الأزمة ما هي إلا تلك النقطة الناتجة عن تراكم كمي، والتي لا بد لها أن تنقل المأزوم إلى حالة نوعية أرقى بالضرورة. ولا ندري إن كان هذا الفهم يطابق ذاك الوصف. 

من هذه البداية، يلوح لنا أن معدِّي الورقة / الموضوعات قد قدموا استقالتهم العلمية فيها ليؤثروا عليها الوقوع في الخطأ المنهجي القاتل والسائد في تغليب تجليات الظاهرة على أصولها. أو بعبارة أخرى: في تغليب الشكل على المضمون. 

ولما كان العلم في جوهره، هو ذلك الانتقال من الشكل إلى المضمون بغية سبر غور موضوعه، بهدف معرفة قوانينه ، ومن ثم التحكم في هذه القوانين؛ فإن عدم التوسل بإجراءاته يعني في أحسن الأحوال مقاربة الموضوع بمنهج وصفي. أكثر ما يقدمه: رصف المعطيات على سبيل المجاورة. وعليه فلن تجدي نفعاً كل المحاولات الهادفة إلى معرفة قوانين الموضوع، بله التحكم فيها.

وما ذهبنا إليه يؤكده كاتبو الموضوعات صراحة بقولهم: «لسنا بصدد عرض الأسباب التفصيلية لتراجع الحركة العام، ولكننا بصدد معرفة آثار هذا التراجع على حركتنا في بلدنا، وخصوصيات هذا الانعكاس علينا». 

إن الناظر في هذه العبارة ليخال في أول الأمر أنها تؤسس لمعرفة الخاص من خلال العام؛ والمبدأ منهجياً صحيح ولا شك، شريطة أن يكون لدينا في العام معرفة علمية نستطيع من خلالها أن نتناول نتائجها كأسباب لمعرفة الخاص. وهذا ما لا يظهر في هذه الموضوعات. 

وللتوضيح أكثر نقول: إن القضية تنقسم إلى ثلاثة مستويات معرفية: 

الأول: الإقرار بأزمة تجلَّت في الانقسامات، ويُبحث عن أسبابها في:

الثاني: وهو تراجع الحركة العام الذي بدأ في أواسط الستينات. 

والموضوعات تعلن أنها ليست بصدد الدخول في:

الثالث/الجوهري/ الحقيقي: وهو أسباب التراجع العام للحركة. 

وعليه، فإننا نتهم كاتبِي الموضوعات بالقصور عن التفكير المتواصل أو المتصل؛ الأمر الذي أدى إلى اعتبار تجلٍّ ما لظاهرة سبباً لتجلٍّ آخر لنفس الظاهرة، وبالتالي غاب المضمون /الجوهري/الحقيقي عن الموضوعات؛ ليحلَّ بدلاً عنه: تفسير نتيجة بنتيجة أخرى، وكلتاهما من نفس المستوى المعرفي عملياً.

ومن نافل القول: إن غياب الجوهري يُسقط الكثير من القيمة العلمية، وإن كان لا ينهيها تماماً.

ونتيجةً لهذا التأسيس، يتابع كاتبو الموضوعات إحالة الكثير من الأسئلة المنطقية والتي تطرحها الحياة بحد ذاتها، إلى ما شُخِّص على أنه سبب لها. ولا ندري إن كانت هذه الأسئلة ناشئة عن عدم معرفة حقيقة التراجع العام أم عن الحياة ذاتها؟!.

كما أننا لا ندري إن كان «التراجع التدريجي البادئ بالتراكم، والذي ترافق مع العجز عن تشخيص السبب الحقيقي.... أدى إلى انخفاض تأثير الحركة الشيوعية جماهيرياً»، رغم أن الأحزاب الشيوعية الرسمية كانت تضم ثمانين مليوناً من الشيوعيين، ورغم أن أليندي قد تسلَّم السلطة بالانتخابات، ورغم نشوء ظاهرة انتقال أحزاب وحركات بأكملها إلى صفوف الماركسية - اللينينية، ورغم... ورغم.... 

ومن الحق والعدل القول: أن كاتبي الموضوعات لا يلبثون أن يحيلوا التراجع إلى سبب ذاتي، هو الدور الكابح لقيادة الحزب الشيوعي السوفييتي التي انتقلت إلى مواقع انتهازية يمينية، إلا أنهم يجعلون ذلك سبباً لسياسات توفيقية عامة أدت إلى التراجع العام. 

ولنا أن نتساءل مرة ثانية عن سبب السبب، سبب انتقال قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي إلى مواقع انتهازية يمينية.

إنني أدعي: 

أن كل هذه الأسباب وغيرها مما يمكن أن يُقال، تعود في الأصل إلى سبب أساسي، جوهري، هو بعبارة واحدة: 

قدرة العدو الامبريالي وبكافة تلاوينه وأطيافه (ابتداءً من عملاء أجهزة الاستخبارات المباشرين، مروراً بالصهيونية والماسونية والتروتسكية، وليس انتهاءً بالاشتراكية الديمقراطية). أقول قدرته الممتازة على اختراق البنية الذهنية للحركة الشيوعية. 

وقد جرى ذلك عبر محورين أساسيين تفرع عنهما محاور كثيرة وهما: 

1- العمل على نقل الأحزاب الشيوعية وفكرها إلى الاشتراكية الديمقراطية. وقد ابتدأ ذلك بفكرة التعايش السلمي بين المعسكرين، ولم ينته بفكرة تغليب الإنساني على الطبقي، وتغليب المعرفي على الإيديولوجي... 

وقد نجح العدو في ذلك أيما نجاح! فسادت العقلية الاشتراكية الديمقراطية جميع الأحزاب الشيوعية، باستثناء أحزاب صغيرة ، وقليلة جداً، وليس أحدها - بالطبع - حزبنا الشيوعي السوري. 

2- العمل على ايصال العلم الشيوعي بالإضافة إلى العلوم الأخرى إلى طريق مسدود، فجمدت النظرية جموداً مطبقاً.. وانهار الإبداع.. ولم يعد أمام المثقف الشيوعي سوى خيارين: 

أما أن يكرر مقولات الماركسية - اللينينية التي أصبح بعضها مفارقاً للواقع، وإن لم تكن كذلك ، فإنه يفارقها مع الواقع، أي يُسقِط جموده وتخلفه على ما ليس بجامد ولا متخلف. 

وأما أن يدعي مهارته في فهم الواقع الجديد، فما نراه إلا وقد أسس أفكاره ورؤاه على مفاهيم ومصطلحات يعتبرها بدهية، وما هي في حقيقتها سوى مصطلحات ورؤى وأفكار تمهيدية، صنَّعها العدو بتقنية رائعة، واستطاع بكل حرفية ومهارة ان يُسوِّقها لدى الشيوعيين، بله الشعوب؛ لتغدو أسساً لتفكيرهم. وبذلك استطاع العدو،  وبمهارة فائقة، وإلى حد بعيد، أن يسطِّح وعينا ووعي شعوبنا. 

فإن لم يقتنع القارئ بصحة ما جئتُ به، فلينظر إلى صحيفة «قاسيون» مثلاً. 

فعلى الرغم من كونها من أنقى الصحف الشيوعية والوطنية، وأكثرها صفاءً واتساق فكر، فإن الباحث لا يعدم الكثير الكثير من مثل ما أشرتُ إليه. ولعل نظرة عَجلى إلى وجهات النظر المناقِشة لأوراق العمل ترينا الكثير من مثل: 

■ وحدة الشيوعيين السوريين شرط لقيام الحزب بدوره على أكمل وجه ؟؟!!

■ الديمقراطية الحزبية ؟!!

ولا ندري هل قامت ثورة أكتوبر وكل الثورات الاشتراكية نتيجة لوحدة الشيوعيين؟ أم كانت الديمقراطية الحزبية سبباً لقيام ثورة أكتوبر أو غيرها من الثورات الاشتراكية أو غير الاشتراكية؟. 

■ إلغاء منصب الأمين العام؟!!

■ عدم التجديد لعضو مركزية أكثر من دورتين ؟!

ولا أرى في إلغاء منصب الأمين العام، إلا ما أراه في إلغاء منصب قائد جيش يُفترض أنه يحارب أو سيحارب!!، كما لا أرى في عدم التجديد لعضو مركزية أكثر من دورتين، إلا ما أراه في ضرورة أن يدرِّس أستاذ جامعي أربع سنوات فقط!!. ولا أدري إن كان هذا الكلام ثرثرةً وهذراً وحباً في الموضة، أم أن الأمر يتوضح في قدرة العدو على تسطيح وعينا وتسفيهه؟! أم في قدرته على تشكيكنا بأنفسنا وبقادتنا؟. ومن نافل القول أن الحزب الذي لا يثق بأعضائه ولا بقادته، حزب مهزوم لا محالة. 

وبعد..

فإنني، ولئن اختلفتُ مع «الموضوعات» في الإجراء الذي قامت به، ولئن اختلفتُ معها في تسخير الحقائق العلمية التي تناولتها بهدف التأسيس النظري لما يُسمَّى وحدة الشيوعيين السوريين؛ فإنني لا أحط من قيمتها العلمية، وحسبها إنها أشارت إلى حقائق، وفتحت حقولاً للتفكير، لم يسبقها إليها أحد.. 

ولستُ أراها مجرد إشارة.. 

■ ماهر حجار - حلب 

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.