تطورات ليبيريا: حلقة جديدة من التكالب الامبريالي
جاءت الأنباء بخصوص وصول طلائع قوات استطلاع عسكرية أمريكية إلى ليبيريا، وما سبقها من إعلان الرئيس تشارلز تايلور قبول تنحيه عن الحكم مقابل وصول قوات حفظ سلام دولية إلى بلاده التي عاد إليها الصراع الدامي بين المتمردين والحكومة، لتشكل نقطة تحول جديدة في أشكال التعامل الأمريكي مع القارة السمراء..
ودائما في ظل التنافس المطرد حولها منذ انتهاء الحرب الباردة مع فرنسا بوصف هذه الأخيرة من أقطاب الاستعمار التقليدي السابق المحتفظ بامتيازاته الاستعمارية في أفريقيا ككل والتي لا تزال بكل مخزونها من مساحات وثروات وقوى بشرية تسعى بدورها إلى بلورة كيان مستقل لها على الساحة الدولية وهو مسعى محكوم إلى الآن باستمرار الصراعات وحروب الاقتتال الأهلي الداخلي والأوبئة الصحية والاستعمارية الناجمة عن مختلف أشكال التدخل والتنافس البيني والخارجي.
فبينما عرض الرئيس النيجيري أولوسيغون أوباسانغو على الرئيس تشارلز تايلور، المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والذي صدرت بحقه مؤخراً مذكرة توقيف دولية من جانب المحكمة الخاصة المعنية بهذه الأمور في سيراليون، اللجوء السياسي على ان يتم ذلك بروية وذكاء وبوقت مناسب دون أن يتسبب بإزعاج لنيجيريا، نقل عن شهود عيان أن فريقاً عسكرياً أمريكياً وصل بالحوامات إلى العاصمة الليبيرية منروفيا فيما وصف بمهمة تستهدف استكشاف سبل إعادة الاستقرار للبلاد في حين أضاف السفير الأمريكي هناك أن الفريق سيتفقد أماكن تواجد اللاجئين والنازحين من جولة المواجهة الأخيرة التي أوقعت قرابة 500 قتيل بين المتمردين وجيش تايلور الحكومي. وزعم السفير جون بلاني أن رئيسه جورج بوش قلق للغاية بشأن الوضع الإنساني في ليبيريا(التي تعصف فيها الحروب الداخلية منذ 14 عاماً والتي يقال إن العبيد الأمريكيين المحررين أسسوها قبل 150 عاماً)، علماً بأن تايلور المطلوب لمحكمة سيراليون هو من يطالب بدخول قوات حفظ سلام دولية بقيادة الولايات المتحدة إلى بلاده، وهو ما قد يعني محاولته أداء آخر مهمة له على مبدأ من بعدي فليأت الأمريكان خاصة أنهم صمتوا تماماً عن إثارة أي شيء بخصوص تايلور.
غير أن ما يكمن وراء الأكمة بعيداً عن شعارات الهم الإنساني الممجوجة أمريكياً وبما يتجاوز موضوع مستجدات ليبيريا هو السعي الأمريكي المحموم والمستجد لإيجاد موطئ قدم عسكري في أفريقيا من خلال ليبيريا لاسيما مع فشل محاولة تطبيق ذلك مؤخراً عبر بوابة الصراع الدائر في ساحل العاج المجاورة شرقاً حيث كانت فرنسا أسرع في ذلك استناداً إلى سهولة استثمارها لروابط نفوذها التاريخي وقنواته، ومع استذكار واشنطن لفشلها الذريع في الصومال أوائل تسعينات القرن الماضي حين سُحِل جنودها على الأرض الصومالية ومرغت أنوف تدخلهم هناك بالوحل.
فمن المعروف وما تؤكده كتب التوثيق الاستراتيجي أن الولايات المتحدة لا تزال تحاول تحجيم الدور الفرنسي والأوربي عموماً في القارة الأفريقية حتى تبقى منطقة استثمار وسوقاً للمنتوجات الأمريكية. ومع محاولة واشنطن ما بعد أيلول تعزيز دورها كدركي عالمي مهيمن ووحيد لحماية مصالحه الاقتصادية عسكرياً جاءت ليبيريا لتوفر ظرفاً مواتياً لتحقيق ذلك من جديد في أفريقيا، خاصة أن واشنطن باتت مدفوعة بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وزوال نظام القطبية الثنائية بالاعتبارات الإقليمية المباشرة المرتبط بالمصالح الاقتصادية الأمريكية في المنطقة في ظل استمرار أشكال التدخل والتنافس الأجنبي الذي يشكل ابرز عامل من عوامل تغذية النزاعات الإفريقية ضمن تكالب إمبريالي وحشي على حساب حياة شعوب أفريقيا.
وقد أدى انحسار تأثير الفكر الاشتراكي عالمياً وأفريقياً إلى إضعاف عوامل التلاحم بين العرقيات المختلفة داخل الشعب الواحد مقابل بروز العامل العرقي أكبر وأوضح معبّراً عن الهوية الجماعية ونشوء نزعة الانتقام المتبادل لتصفية مختلف الحسابات بما فيها الحدودية الهشة المترافقة مع ضعف بُنى الحكم الفوقية والتحتية في الدول الأفريقية وزاد ذلك سعي واشنطن المسيطرة على المنظمات والمؤسسات المالية الدولية ومقابل النموذج الفرانكفوني الفرنسي القائم على إبقاء التبعية عبر المساعدات إلى الاستنمار في فرض نموذجها الخاص على الدول الأفريقية غير المستعدة بنيوياً له سواء لجهة إقامة «إصلاحات» سياسية واقتصادية واجتماعية على الطراز الليبرالي الجديد استناداً إلى خفض الإنفاق الحكومي وترشيد دور الدولة الاقتصادي الأمر الذي أدى في حالات عديدة إلى عودة الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية من قبل الفئات الأكثر تضرراً وذلك في فترة من تطور أفريقيا تتطلب بناء الدولة القومية أو الدولة الأمة، القادرة أولاً على مواجهة الأوبئة والأمراض الفتاكة مثلاً، تمهيداً للمضي في إقامة نماذج حكم ديمقراطية اجتماعية تمليها ظروف التطور الداخلي بما يتجاوز الأطر السياسية التجميعية الهشة القائمة حالياً وبما يقيها قدر الإمكان من مختلف أشكال الهيمنة والتدخل الأجنبي المباشر.