«تحسبهم جميعاً ولكن قلوبهم شتى» هبوط القمة وصعود الشارع العربي

قال أحدهم: «إن التهافت على السلام دليل الضعف والوهن وشاهد على تآكل الإرادة السياسية وقصورها عن تحمل مسؤولية الصراع من أجل الحياة، والصراع من أجل السلام.. كما أن استرضاء العدو بأي ثمن هو أقرب الطرق إلى الحرب.. ولأن الغاية النبيلة لا تحققها وسيلة ذليلة، فإن أول قوانين الصراع تشير إلى أنه حين يرضى طرف لنفسه أن يستخذي، فإن الطرف الآخر مدعو لأن يستقوي..».

ولعل ما ميز سورية العربية ودورها في الصراع العربي ـ الصهيوني هو أن وضوح خطها السياسي الوطني وضع الإرادة الفولاذية في خدمته، بحيث تحولت السياسة السورية إلى قوة فعل تحترم نفسها وتنتزع احترام الآخرين حين تأكدوا أن سورية تعرض السلام واقفاً على قدميه وفق الدفاع عن الحقوق الثابتة وليس راكعاً على ركبتيه وفق مشيئة العدو الغاصب.

وهذا ما عبر عنه الموقف السوري في قمة عمان عندما طالب القادة العرب بالثبات على الحقوق العربية وعدم الوقوع في الأوهام حول تبدل الحكومات الإسرائيلية والابتعاد عن الارتجالية والانفعالية واللهث وراء سراب السلام غير القائم على العدل وعودة الحقوق العربية كاملة غير منقوصة. ولا شك أن الوصول إلى السلام العادل والشامل ليس مرتبطاً بوصول هذا الحزب أو ذاك إلى السلطة في الكيان الصهيوني، أو بمزايا رئيس هذه الحكومة الإسرائيلية أو تلك، بمقدار ما هو مرتبط بمدى استعداد الشارع الإسرائيلي للقبول بالسلام العادل والشامل، ذلك الشارع المؤلف من حوالي 85 مجموعة عرقية مختلفة الأصول والعادات والتقاليد بحسب الدول التي هاجرت منها إلى فلسطين بقوة التضليل والدعاية الصهيونية حول «الأرض الموعودة»، وبفضل الدعم الإمبريالي للمشروع الصهيوني منذ مؤتمر بازل حتى الآن.

فالشيء الذي لم تدركه مؤتمرات القمم العربية وأخرها في عمان هو أن الشارع الإسرائيلي بأحزابه وقادته الصهاينة موحد أكثر من أي وقت مضى على القضايا الرئيسية التالية:

1.التأكيد على «يهودية الدولة» بحيث لا تتحول إلى ثنائية قومية وهذا يعني عملياً ممارسة سياسة الترحيل للفلسطينيين.

 2.لا شيء فوق «الأمن الإسرائيلي وعسكرة المجتمع» والتفوق العسكري الإسرائيلي على كل ما عداها في المنطقة.

3.خلق سوق اقتصادية متطورة بشكل يتناسب مع شراكة إسرائيل الاقتصادية مع الدول الرأسمالية المتطورة، ومع الدور الوظيفي للاقتصاد الإسرائيلي في المنطقة في خدمة مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية...

4.تعميق العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية في جميع المجالات والعسكرية منها خصوصاً.

5.أهمية تشجيع الهجرة واستيعاب المهاجرين الجدد انطلاقاً من القاعدة التي وضعها بن غوريون بأن «الصهيونية تساوي الهجرة». ومع كل هجرة جديدة استيطان جديد على حساب الأرض العربية.

6.رفض السيادة العربية على القدس ورفض حق عودة اللاجئين لأن القاعدة الصهيونية تقول بـ «أكثر ما يمكن من الأرض وأقل ما يمكن من السكان العرب».

ومن هنا لا يمكن الحديث عن جاهزية الشارع الإسرائيلي للسلام طالما أن هذه هي استراتيجيته وهي قائمة على الاغتصاب ودوام الاحتلال وممارسة سياسة الإرهاب والقتل والترحيل المأخوذة عن أساطير التوراة والتي لا توازيها إلا الممارسات النازية بحق شعوب العالم إبان الحرب العالمية الثانية... فقد جاء في سفر الخروج ـ الإصحاح34 / ما يلي: (احفظ أنا موصيك اليوم، ها أنا طارد من قدامك الآموريين، والكنعانيين والحثيين، احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض.. لا تقطع معهم عهداً، ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم، دفعتهم أمامك فلا تستبق منهم نسمة واحدة كلهم جميعاً بحد السيف).

إذاً عن أي يمين ويسار، عن أية تمايزات بين القادة الإسرائيليين يتحدث بعض العرب؟ وما الهدف من إعطاء الفرصة لشارون حتى يتضح موقفه من السلام؟.

لقد عبر خطاب السيد الرئيس بشار الأسد عن موقف مبدئي واضح بهذا الصدد حيث قال: «علينا أن نحدد حقيقة الشارع الإسرائيلي وألا ننغمس بتحليل الأشخاص... نقول: رئيس حكومة عنصري. نقول: حكومة عنصرية. نقول: أمن وجيش عنصريان. وعندما نصل إلى المجتمع الإسرائيلي نصمت بأي منطق... كل الأشياء التي سبقت هي نتيجة للشارع الإسرائيلي. فإذاً هو مجتمع عنصري أكثر من النازية».

وعلى هذا الأساس كان من المفروض بالحكام العرب قول الحقيقة وتحديد المفاهيم والتعبير عن وجدان المواطن العربي والارتقاء نحو حالة النهوض الوطني في الشارع العربي وبالتوازي مع الانتفاضة الفلسطينية الباسلة ضد الاحتلال الذي يحاصر كل المدن والقرى الفلسطينية المخضبة بدماء الشهداء والجرحى الذين تجاوز عددهم الأربعمائة شهيد وثلاثين ألف جريح منذ 28 أيلول 2000 وحتى الآن...

كان من المفروض بالقمة العربية في عمان أن تستجيب للتحدي وأن تصوغ المواقف العملية، لا الإنشائية حول كيفية التعامل مع حكومة مجرم الحرب أرييل شارون، واتخاذ موقف واضح ضد الولايات المتحدة الأمريكية حليف إسرائيل الأهم والرئيسي في كل جرائمها ضد العرب. وكان لافتاً مدى الاستهانة والاحتقار لقمة عمان من قبل واشنطن عندما استخدمت حق «الفيتو» في مجلس الأمن ضد مشروع قرار حماية الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة من الجرائم التي يقترفها عسكر شارون بحق المظاهرات الفلسطينية وكان لافتاً أكثر أن الفيتو جاء قبل يوم واحد من انتهاء قمة عمان.

وكان قد سبق القمة مواقف أمريكية تستهين بالأمة العربية وبالنظام العربي عموماً وغاية في التأييد المطلق لإسرائيل وهي:

أولاً: استقبال شارون في البيت الأبيض والثناء الذي كاله له الرئيس جورج بوش الابن «حول سماته القيادية وسعة أفقه التاريخي وخياله الخصب» المقصود هنا خيال شارون في تخطيط وتنفيذ المجازر بحق العرب!!

وقد شرح شارون نتائج زيارته لواشنطن في مؤتمر صحفي عقده في مطار بن غوريون فور عودته، حيث قال بالحرف: «لقد تحققت جميع الأهداف التي وضعتها نصب عيني وهي:

ـ كسب التأييد الأمريكي لمواقف الحكومة الجديدة إزاء المسائل السياسية والاستراتيجية في المنطقة.

ـ تعزيز العلاقات الثنائية التي تستند إلى قيم ومصالح استراتيجية مشتركة.

ـ تطابق وجهات النظر حيال التهديدات الإقليمية وتزايد الإرهاب ومحاولة الحصول على أسلحة بالستية من جانب العراق وإيران وسورية.

ـ اعتراف أمريكا بإسرائيل كشريكة في تطوير منظومات دفاعية ومنظومات ردع لتحييد تهديد الصواريخ البالستية «الدرع الصاروخي».

ثانياً: جولة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في دول المنطقة عشية مؤتمر القمة وبعد قصف بغداد، حاملاً تعليمات لبعض الدول العربية «الصديقة» من أجل إقناع المشاركين في قمة عمان «بأولوية خطر العراق على الوضع في الأراضي المحتلة والمطالبة بوقف الانتفاضة وعدم إظهار القضية الفلسطينية كقضية مركزية للعرب» وكانت جولة باول وما حملته من أهداف وتأييد لحكومة شارون بالغة الوقاحة للعرب وخاصة تلك الأنظمة التي تدعي الصداقة مع أمريكا والتي تواجه الآن استنكاراً عربياً شعبياً ضد تلك الأنظمة وضد أمريكا ومخططاتها القديمة والحديثة الرامية إلى الهيمنة على المنطقة ونهب ثرواتها وجعلها سوق تصريف لمنتجاتها وتحطيم اقتصادياتها وجعل دولها تابعة في إطار ما يسمى بالعولمة ـ أي الأمركة ـ.

لقد كان الرفيق خالد بكداش يؤكد دائماً أنه ليس لأمريكا أصدقاء بين الشعوب العربية وإنما هناك بعض الأنظمة المنضوية تحت سياستها، وأمريكا في حقيقة الأمر لا تعترف إلا بصداقة إسرائيل والتحالف معها ويصبح عند ذاك المطلوب من العرب المهادنين لأمريكا حماية إسرائيل وأمنها لينالوا الرضى الأمريكي.. إن أمريكا تريد من الحكام العرب أن يكونوا معتدلين خارجياً أي قابلين بالاحتلال، وتريدهم قساة في معاملة شعوبهم لمنع أي نهوض عربي عام مشترك في مواجهة الاحتلال ومخططاته الاستيطانية...وكم كان معبراً كلام السيد الرئيس بشار الأسد عندما ذكّر المشاركين في قمة عمان «بأننا كمسؤولين حالة مؤقتة، أما الاستمرار فهو للشعوب، وشعبنا العربي شعب عريق لا يستكين مهما طال الزمن أو قصر، لذلك علينا أن نرتقي إلى مستوى طموحات هذا الشعب...»

أن الشعب السوري العريق في مواجهة الاستعمار قديمه وحديثه، يؤيد الموقف الوطني السوري المعبر عنه في قمة عمان وخاصة التأييد اللا محدود للانتفاضة الفلسطينية الباسلة وإحياء التنسيق على المسارات ـ السوري ـ اللبناني الفلسطيني في مواجهة الخطط الصهيونية ـ الأمريكية المعادية للسلام والرامية إلى إدامة أمد الاحتلال وزرع الأرض العربية المحتلة بالمستوطنات الصهيونية.

إن شعبنا لن يبخل بتأييد الانتفاضة الفلسطينية الباسلة كما سبق له أن ساند بلا حدود المقاومة الوطنية اللبنانية حتى حققت انتصارها المشهود يوم /25 أيار /2000 / في طرد الاحتلال من جنوب لبنان. ونذكر الجميع أن الجماهير في سورية لا تستنكر فقط الجرائم الصهيونية المدعومة من واشنطن ضد الانتفاضة الفلسطينية الباسلة، بل تميزت دمشق بأنها العاصمة الوحيدة التي استطاع شبابها إنزال العلم الأمريكي عن السفارة الأمريكية في مسيرة حاشدة ضمت الألوف من أبناء شعبنا استنكاراً للدعم الأمريكي للكيان الصهيوني.

 

وهكذا تبقى سورية صامدة على مواقفها الوطنية المعهودة لا تساوم، لا تفرط، لا تتنازل عن الحقوق العربية في كنس الاحتلال وإقامة السلام العادل والشامل طال الزمان أم قصر.