«الوطن في خطر» استعارة ستالينية أم صرخة وطنية أصيلة؟

لأمر ما، يحتار من يحتار في محاولاته الدائبة للتخلص من السياسة الوطنية السورية والدور الإقليمي لها؛ ليقف ببلاهة أمام المشهد السياسي السوري حاشراً سبابته في أنفه متسائلاً عن حساباته؟ هل هي خاطئة إلى هذا الحد؟؟.. فالأمر لم يعد متوقفاً لديه على تغيير النظام القائم في سورية؛ فلو كان الأمر كذلك لهان عليه، بل إن ما يؤرقه اليوم تلك الحالة التي تكشفت عن مشاعر الشعب السوري المتمثلة بعدائها الشديد لما يخطط ويحاول.

ولقد برزت هذه الحيرة بشكل مثير للشفقة في مقال للسيد وائل السواح نشرته له صحيفة السفير بتاريخ 22/12/2005 تحت عنوان «هل الوطن في خطر؟». ولئن أثار شفقتنا وضع غيره سبابته في أنفه محتاراً، فإن السيد وائل يفصح بجلاء شديد عن حيرته عندما تكتنف تعابيره كلها واستنتاجاته صيغ التمريض ( قد يكون.. ربما .. من الأرجح...تكاد ...). وبالتأكيد فإن القارئ يكتشف دون أي عناء يذكر أن هذه التعابير ليست ناتجة عن الحصافة العلمية.

في مقاله نجد أن السيد وائل قد أثيرت حفيظته عندما هاله أن يرفع المشهد السياسي في سورية شعار «الوطن في خطر» فهو يراه:

شكلاً: مستعاراً من الشعار الذي رفعه ستالين عشية الحرب الوطنية العظمى ليجمع كل الشعب السوفييتي حول الدفاع عن الوطن، مستنكراً أن يقوم البعض بمحاولة لرفع الحس الوطني لدى الشعب السوري وكأن في ذلك عارٌ عليهم، بل ويلوم الدكتور قدري جميل لأنه يرى أن شعبه بتقاليده الوطنية ومآثره الكفاحية يعرف من هو العدو ويدرك إلى من يوجه بندقيته. فأي عار يا قدري جميل قد لحق بك عندما ترى في شعبك ذلك؟ .. أنت ترى في شعبك التقاليد الوطنية والمآثر الكفاحية والوعي بالأخطار التي تهدده ومعرفة عدوه الحقيقي... أما الفيلسوف الجليل وائل السواح فيرى حقيقة الشعب السوري في «مظاهر الحسابات القومية والدينية والطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية التي بدأت تظهر في السنوات الأخيرة».. ولا أظن أننا نحكم بالنوايا عندما نقول إن كل امرئ يرى في شعبه ما يتمناه !!!؟؟.

أما الفقر والأمية والتردي الاقتصادي وتراجع الفكر العلماني وبعد الجماهير عن الاهتمام بالشأن العام فلا يراه السيد وائل نتاجاً طبيعياً للفساد الكبير والذي تمثل مؤخراً في سورية في الليبرالية الجديدة المتمفصلة عضوياً مع العدو الخارجي والتي باتت تشكل نقطة الاستناد الداخلية الرئيسية لهذا العدو في الداخل والتي ما فتئت تعمل على ملاقاة السياسة الأمريكية في المنطقة وتغذ السير في ركابها على أنها « نزوع عالمي صادق نحو الديموقراطية وقيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان.»،بل يراه نتاجاً لعدم التجاوب مع هذا النزوع العالمي الصادق نحو الديمقراطية وقيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان وعدم التعامل بشفافية مع مطالب المحافظين الجدد!!!؟.

وهو إذ يلوم الناس على هذه الاستعارة لا يلبث أن يقوم بنفسه بإجراء قياس مباشر بين الوضع السوري الحالي والوضع القائم آنذاك في الاتحاد السوفييتي. ولكي لا يؤدي مقاله عكس ما يريده فإنه يسارع مذكراً قارئه بأن هذا القياس هو قياس مع فارق، فالاتحاد السوفييتي كان يواجه النازية، بينما سورية الآن لا تواجه «نازية مخيفة، وإنما نزوعاً عالمياً صادقاً نحو الديموقراطية وقيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان.»، وهو بذلك يحذر قارئه من مغبة أن يغويه الشيطان فيقول للسيد وائل: «ولكن الشعب السوفييتي استجاب لصرخة ستالين وحقق النصر على النازية؟؟!!».

أما مضموناً: فإن استياءه الأساسي يأتي من ظهور تكاتف وتلاحم جديد لم يكن يتوقعه، وهو هذا التلاحم والتكاتف الذي تتوج في إعلان التوقيع على الوثيقة الوطنية. فلئن اقتصرت هذه الصرخة على «المجموعة الستالينية السورية التي يقودها الدكتور قدري جميل» لهان الأمر، أما أن تشمل هذه الصرخة عدداً « من السياسيين والمثقفين والأكاديميين السوريين من أصول قومية وماركسية وإسلامية» فهذا ما يدعوه إلى الحيرة والعجب، بل والأنكى من ذلك أن عدداً من كبار رجال الأعمال السوريين وأسماء لامعه لشركات تجارية أو لبرلمانيين وتجار وصناعيين قد اختاروا التجاوب مع هذا الشعار؟؟؟!!! كيف حدث هذا؟؟ السيد وائل لا يفهم ذلك!! إذن عليه أن يستنتج أن هؤلاء لا يعبرون عن رجال الأعمال والبرلمانيين الأصلاء! وسريعاً ما يكتشف بذكاء شديد أنهم أولئك البرلمانيون والسياسيون ورجال الأعمال الجدد أولاد الحرام، أما البرلمانيون والسياسيون ورجال الأعمال الأصلاء أولاد الحلال فهم بكل تأكيد ليسوا منهم.... يطمئن السيد وائل...

ولكي نزيد اطمئنان السيد وائل فإننا نبشره بأن رجال الأعمال السوريين والأسماء اللامعة للشركات التجارية قد انهوا تجاوبهم مع المجموعة الستالينية فور صدور القرار 1644، إذ لملموا خيمهم وعلقوا فعالياتهم وكأنهم رأوا بصدور القرار 1644 زوال الخطر عن الوطن، أو أنهم قد عادوا إلى رشدهم ورأوا أن المجموعة الستالينية ومطلقي الوثيقة الوطنية قد ضللوهم مهتدين في ذلك بتنظيرات السفارة الكندية من أن وطنهم ليس في خطر، رغم ما يروجه الأشرار مطلقو الوثيقة الوطنية...

وكيلا يسخر أحد من دعواه بأن الوطن ليس في خطر والوضع تمام التمام و(عين الله عليه)، يسارع السيد وائل لأخذ موقع المنظر الرزين المجلل بالحكمة والمعرفة –وسبابتيه أمام وجهه لكي لا يظن أحد به الحيرة- فيجد أن الخطر الحقيقي الذي تواجهه سورية هو خطر داخلي مزدوج متمثل بالاستبداد والانقسام المجتمعي – (أوعى يكون الانقسام الطبقي!!)- وهو في ذلك يضحك في عبه على أنه استطاع بحذلقته أن يمرر على الناس نقل المعركة إلى الداخل مشيراً بإصبعه إلى ساحة الوغى الحقيقية التي في الحقيقة هي المعركة الداخلية والتي يجب أن تكون مع السلطة القائمة ومع الطائف الأخرى وهو بذلك يحذر جميع الطوائف في سورية ومنذ الآن أن عليها أن تعد عدتها وأن تأخذ في حسبانها ما تكشّف عنه الحدث العراقي –ولنلاحظ مصطلح الحدث العراقي وليس احتلال العراق- «أما الخطر الخارجي فمقدور عليه إذا ما اتخذت الحكومة السورية سياسة سليمة في الداخل والخارج.».

وإذا ما تجاوزنا اقتراحاته لسياسة سورية سليمة في الداخل والتي لم تأتِ في سياق المقال إلا لغرض تسويق رؤيته للسياسة السليمة في الخارج، واتجهنا مباشرة إلى هدف النص/المقال؛ فإننا نجده يجاهر بوضوح أن المطلوب الآن من سورية ليس التظاهرات والاعتصامات والتي سبق له أن فندها بل المطلوب هو انفتاح على الخارج «يقتضي شفافية أكثر في التعامل مع لجنة التحقيق الدولية، وشفافية أكبر في التعامل مع الملف العراقي، بأن يحول الخطر الخارجي إلى عامل إيجابي سوف يساعد ربما في عملية بناء سورية مستقبلية مختلفة.».

نعم .. بهذا الكذب والدجل يسوق السيد وائل للسياسة الأمريكية في المنطقة وتجاه سورية .. والتي لا يعادلها سوى دجل العرافين وأصحاب الزوايا والتكايا.. وهو يتقن لعبته كل الإتقان بنزع المصطلحات من سياقاتها وإلصاقها بسياقات مختلفة ومناقضة لسياقاتها الأصلية، فيصبح الدفاع عن النفس تجاه تقرير ميليس المدان من كل عاقل على الأرض تعميةً، ويجب التحلي بالشفافية مع لجنته غير الموقرة، ويصبح الاحتلال المجرم للعراق حدثاً عراقياً، وعدم مباركة هذا الاحتلال وشرعنته تعمية ويجب على سورية التعامل بشفافية معه بأن تستجيب للمطالب الأمريكية بأن تدين المقاومة، بل وأن ترسل جيشها إلى العراق ليكون دريئة تتلقف كل ضربات المقاومة العراقية بالنيابة عن جيوش الغزاة، ولا ندري لماذا لم يطالب السيد وائل بضرب المقاومة الفلسطينية واللبنانية والاستجابة لمعاهدة سلام مذلة مع العدو الإسرائيلي، بدجل جديد يسميه التعامل بشفافية مع ملف الإرهاب والسلام.

إذن نحن أمام صرخة جديدة –لا ندري إن كانت من السفارة الكندية أم الأمريكية- تدعو الشعب السوري مجدداً للرضوخ أمام السياسة الأمريكية-الصهيونية في المنطقة بعد أن باءت الضغوط الخارجية بالفشل. فلعل وعسى أن تنجح هذه الصرخة في المساهمة في تركيع سورية من الداخل.

إذن، حيناً من الداخل، وحيناً من الخارج، وأحياناً كثيرة منهما معاً...

ولئن لم تفلح هذه الصرخة عند صناع السياسة الوطنية السورية، فلعلها توقف هذا الهوس المجنون الذي يسميه غير السيد وائل السواح بالعاطفة الوطنية والوحدة الوطنية أمام الأخطار.

أما أنت أيها الشعب السوري فحذار حذار من الاستجابة لدعوة «المجموعة الستالينية التي يقودها قدري جميل» أو دعوة هؤلاء الذين أطلقوا الوثيقة الوطنية أو الذين سموا أنفسهم «أهل الشام» ولهذا الاستنساخ لدعوة ستالين، أما إذا استجبت فإنك لن تلقى خيرات المحافظين الجدد في أمريكا ولا تسامح المحافظين الجدد في حزب كاديما الصهيوني، ولن تتشفع لك السفارتان الكندية والأمريكية لدى الأسياد، وإنك إن استجبت فلن تلقى إلا وبالاً، ولن تنال إلا شراً، وستمتهنك قلوب الأسياد قبل دباباتهم، ولن تنعم في «عملية بناء سورية مستقبلية مختلفة» على حد تعبير فيلسوفك التحفة وائل السواح.

 

■ ماهر حجار – حلب