كلمات في الديمقراطية

 

 

 

مسكينة الديمقراطية، فالذين عاضدوها تجاوزوا  مسائلها الأساسية، ومنهم من سقط في مطبات فكرية قاسية، والذين حرّموها أو غربوها انتهوا عند آراء غاية في الغرابة حيث الشعوب غير مؤهلة للديمقراطية ولا الوعي الجماهيري وصل إلى حالة ((ارتقاء)) ضرورية للديمقراطية، ناهيك عن صفصفات تخص التراث وخصائصه المناقضة للديمقراطية أو في أفضل الحالات غير المنسجمة مع الديمقراطية ولهذا وغيره اعتبروا الديمقراطية غريبة الهوى والطباع والخصائص.

إن المسائل الفكرية السياسية البالغة الأهمية ينبغي التوقف عند أغوارها، وينبغي أن نشير أن كلا الاتجاهين وقعا في الخلط بين المفهوم من جهة وأشكال تحققه ووجوده في الواقع العيني من جهة أخرى، ولذلك نجد أن البعض انتهى بهم المطاف إلى واحدية الديمقراطية في مختلف دول العالم، وآخرون اعتبروها بضاعة غربية أو أمريكية.

وينبغي أن نتوضح المشكلة فالديمقراطية مفهوم له خصائصه ومقوماته ولكن هذا المفهوم مجرد، ويعبر عن ذاته من خلال أشكال متعددة ومتنوعة حيث تشترك تلك الأشكال في أنها تقوم وتتأسس على مفهوم الديمقراطية، لكنها تتجاوزه حاملة صفات وخصائص إضافية، وهذا ليس أمرا خاصا بالديمقراطية لكنه يلازم كل مفهوم، والأشكال المادية التي يتجسد فيها ذلك المفهوم، والطريف في الأمر أن الذين يصرحون بواحدية الديمقراطية،  كانوا قد أصابوا عندما رأوا أن تجارب الاشتراكية ينبغي أن تتنوع ولا بد لها أن تتنوع وأضافوا أن الخطأ هو الأخذ بشكل واحد للاشتراكية. وخلاصة الأمر إن أشكال تجلي وتحقيق المفهوم متعددة، والمهارة السياسية والفكرية هي في صياغة الشكل الوطني الخاص للديمقراطية ولكنه القائم والمؤسس على خصائص مفهوم الديمقراطية.

والخلط الآخر هو وضع المسألة على شكل إما ديمقراطية أو دكتاتورية وقد وقع في ذلك من يعلنون أنهم مع منهج ماركس الذي يكرس وحدة المتناقضات وتضادها أو بعبارة  أخرى، لا يمكن الفصل المطلق بين الدكتاتورية والديمقراطية، فحتى في أنقى الحالات المتحققة من أشكال الديمقراطية حيث تسود الديمقراطية، نجد أن بذور الدكتاتورية متوفرة، وإن كانت في حالة جنينية، ناهيك عن أشكال القسر المتوفرة ولا يغير من ذلك قانونية ذلك القسر، ولذلك قيل إنه لا ديمقراطية بلا ضفاف ومعروف أن القوانين والقرار في المجتمعات الطبقية لها جوهرها الطبقي ومضمونها الاجتماعي وليس تعبيرا عن مختلف المصالح الطبقية المتناقضة، ولأن الأمر على هذا النحو، فإن الديمقراطية البرجوازية تخدم مصالح تلك الطبقة قبل كل شيء، ولكن في ظروف علاقات الإنتاج الرأسمالي، وعدم توفر عوامل اختراقها تظل الديمقراطية البرجوازية ضرورة، فهي توفر أشكالا من النضال الاجتماعي والسياسي والنقابي يعبر عن مصالح الطبقات والشرائح الشعبية.

وقد أدى الأمر بالبعض إلى تجاهل ذلك، وعدم التمييز بين مضمون السلطة السياسية من جهة وبين شكل تأدية السلطة السياسية من جهة أخرى، وهذا الالتباس يتخذ ذريعة ضد النضال من أجل الديمقراطية بحجة أنها ديمقراطية برجوازية، ومن جهة أخرى فإن التاريخ السياسي يحدد بصورة أساسية شكلين لتأدية السلطة السياسية وهما شكل سيادة الدكتاتورية، أما الشكل الآخر فهو سيادة الديمقراطية باعتبارها شكلا لتأدية السلطة السياسية، وقد هام البعض بالديمقراطية البرجوازية حتى نبا به هيامه بعيدا عن التعرض لمضمون السلطة البرجوازية الطبقي، أو أن البعض هام بالجوهر الاجتماعي للاشتراكية فنبا بعيدا عن أهمية شكل تأدية السلطة وتجاهل أن الأشكال غير الديمقراطية لتأدية السلطة السياسية، تذهب بذلك المضمون الاجتماعي وتبدده وتحوله عن جوهره وتكوّن لحالات تأتي عليه كليا.

إن الديمقراطية إذ توفر مناخات إيجابية للتنوع الاجتماعي والطبقي و ذلك هو السبيل الصحيح لتأمين وحدة وطنية فاعلة ووطيدة.

وخلاصة الأمر أن كل تجارب الديكتاتوريات وإنجازاتها لم تصمد وانتهت إلى الفشل، ولكن من الوهم والخداع أن نغرس في أذهان الجماهير الشعبية أن ديمقراطية العولمة تحل قضايا الوطن والجماهير الشعبية، ويظل الخيار الموثوق هو الديموقراطية الوطنية التي تؤمن  فعلا سيادة شكل من أشكال الديمقراطية لتأدية السلطة السياسية، ويؤسس هذا الشكل ويتضمن خصائص مفهوم الديمقراطية.

 

■ يوسف السعيد