التأويل الليبرالي للديمقراطية
وفق ماركس، ليس الكل الاجتماعي الحر مجرد جمع حسابي للفرديات الحرة، بل كيان مختلف له منطوق اتساقه الخاص، الذي قد لايتطابق مع المنطق الفردي الميكانيكي الحر، واستطراداً، فإن حديث ماركس عن محدودية الديمقراطية البرجوازية وشكلانيتها، انطلاقاً من التناقض بين وعود عصر التنوير التي حملتها البرجوازية أبان صعودها،و بين العبودية التي يفرضها تحكم رأس المال على الطبقات الشعبية، هذه المحدودية التي لاتعني أن تتحول إلى نوع من «الدوغما» التي سيطرت على الكثير من النخب السياسية، والتي تعاملت مع الديمقراطية وكأنها نوع من «الترف» الفكري والسياسي والذي لن يأتي إلا بعد أن تحل التنمية مشاكل المجتمع.
لقد كان ذلك أحد أهم ثمرات التسويغ الإعلامي والأيديولوجي للتأويل الليبرالي للديمقراطية. ووضع إشارة مساواة بينها وبين الحرية بمعناها العام. في أن الأولى هي آلية تحقيق الثانية في شروطها العيانية، اجتماعياً وتاريخياً، بعد تجريدها من إلهامها الفلسفي هذا التأويل الذي وقعت في أسر استلابه المعرفي الكثير من النخب السياسية التقدمية التي تعاملت مع الديمقراطية باعتبارها «بضاعة» برجوازية، ينبغي مقاطعتها ورفع سيف الحد معها، هذا الفهم الدوغمائي التبسيطي للديمقراطية كان قد ساعد الليبرالية الإمبريالية وبالإضافة إلى عوامل أخرى، باستخدام الديمقراطية استخداماً ذرائعياً ونفعياً على طول الخط. كدعمها للديكتاتوريات العسكرية والأوتوقراطية، ثم في انقلاب تلك الأطروحة إلى نقيضها. فالهاجس الديمقراطي الآن وشهادة الممارسة الديمقراطية هي شرط المساعدة الليبرالي الإمبريالي الأول، مادياً وسياسياً. وهكذا.. فنحن أمام خيانة سافرة،لمبدأ المعيار أو المقياس، المطبق بسخرية كاملة، الأولوية غير معلنة تجند في سبيلها كل وسائل التلاعب الإعلامية والسياسية والأيديولوجية.
لذلك فإن تحرير الديمقراطية من تأويل الفكر الليبرالي لها، يكتسب أهمية استثنائية، خصوصاً وأنه يسعى للمطابقة بين الديمقراطية وأنظمة التعددية السياسية حيث يمكن لفئة قليلة من أصحاب الرساميل، السيطرة على النظام التعددي وتسييره وفق مصالحها والتلاعب بالإرادة الشعبية. في حين أن الديمقراطية الحقيقية وفق ملاحظات ماركس، تقاس بمدى تحقق قيم العدالة والمساواة، أي بالسعادة الكلية للمجتمع. فلا يمكن أن توجد ديمقراطية مع الفقر، أو مع التفاوت الفاحش في مستويات المعيشة. فهي إذن وفي الاستهداف المجتمعي الأرقى لماركس ليست غاية مسبقة تتداولها الأحزاب والأفراد والنخب، بل وسيلة لغايات اجتماعية تستهدف بلوغ المجتمع درجة أعلى من السعادة، وتفتح وازدهار ملكات كل الفاعلين الاجتماعية. إن ذلك يعني بداهة، أن هناك مشروعية من وجهة النظر الديمقراطية نفسها، للتدخل وفرض القيود على حريات بعض الفئات التي يعيق نمط إنتاجها أو ممارستها لحريتها، تحرر الأغلبية من أفراد المجتمع وتفتحهم، أو ممارسة نوع من التدخل الواعي لمستقبل المجتمع ووتائر تطوره المستقبلية لصالح أغلبية الطبقات الشعبية، ولم يكن الأمر إلا كذلك في مراحل مسيرة الديمقراطية نفسها، بدءاً من «أثينا» إلى «وستمنسر» إلى الشكل الديمقراطي المعاصر، نقول ذلك وبصرف النظر عن طبيعة المصالح الاجتماعية والسياسية التي كان يستهدفها هكذا تدخل.
ففي بلد ـ كسورية ـ ليس من الديمقراطية بشيء القبول «بروشيتة» الليبرالية الجديدة حول حرية اقتصاد السوق أو مبدأ المنافسة، تحت ذريعة التلازم بين مبدأي السوق والديمقراطية. أو أن كلاهما يفرض الآخر. انطلاقاً من أن السوق ذاتي الانضباط، أو من عقلانيته المفترضة. «الخفية»، «المتعالية» بينما تؤكد أغلب الدراسات المتحررة من وهم الأطروحة الليبرالية، أن السوق ليس أكثر من مسرح للمنافسة بين قوى الرأسمال الذي تدخله، وأن عمليات ضبطه وتنظيم آليات عمله، تتم من خارج السوق، وفق الاستهداف الاجتماعي ـ السياسي لقوى الرأسمال الأكثر قوة وتأثيراً، فالمسألة بأكملها تتعلق بشيء عياني محدد وملموس، ولكن فقط إذا اعتمدنا وكما يقول لينين «التحليل الملموس للواقع الملموس».
كذلك سيكون عسيراً على حمولة البنية المجتمعية في بلد كسورية، القبول بصيغة الاتحادات الفيدرالية والكونفودرالية، الطوائفية والأثنية، التي تسعى الليبرالية بصيغتها النيوليبرالية المستجدة إلى فرضها وتعميمها عبر التسويغ للمشروعية السياسية والقانونية للفئات والأحزاب الطائفية والأثنية من وجهة النظر الديمقراطية، والتي وقع جزء من الخطاب الديمقراطي المعارض في أسر الاستلاب المعرفي لهذا التسويغ، إضافة إلى التيار الأصولي الذي له مصلحة مباشرة في تأكيد تلك المشروعية.
إن المعادلة العسيرة والصعبة والتي يتوجب على المشروع الوطني ـ الاجتماعي، الديمقراطي حلها، هي التأسيس المستقل لاستراتيجية وأدوات نضال، تشكل عامل استقطاب مستقل في مواجهة ثلاثية، الإمبريالية ـ الأصولية ـ الأنظمة الأوليغارشية، لأن هذه الأخيرة مرشحة للانخراط في مشروع النيوليبرالية الرامي إلى التمويل الكومبرادوري للمجتمع.
وهكذا. فإن الليبرالية وعندما تحاول تعميم تبسيطها الشكلي المجتزأ للديمقراطية عبر تهويمات لفظية مشكوك حتى بأمانتها لها، نجد أن الممارسة الديمقراطية الحقيقية تعيد اكتشاف تعقيد التأويلات التبسيطية تلك. إنها وبلغة «موريس لانجليه» تطالب بتحررها من التأويل الذرائعي ـ النفعي الليبرالي، وإعادة الاعتبار لاستهدافها المتمثل في الكل الاجتماعي وسعادته، ولو على حساب منطق الفرديات الميكانيكية الحرة.
■ كمال إبراهيم