بعث الروح في فكرة الانتداب

لدينا مانديلا يقول للأمريكيين أن الأمبراطوريتين البيزنطية والفارسية انهارتا أمام الفتوحات العربية في القرن السابع لأنهما كانتا ضعيفتين وعاجزتين عن التغيير*. أي أن أمريكا اليوم إزاء العرب قوة تقدمية كحال العرب إزاء الفرس والروم في القرن السابع، وأن انتصارها سهل عليهم، وأن هذا الانتصار سيغيرهم نحو الأحسن، وما عليها سوى أن تكشف عن ساقها لترى العجب كما حدث في لبنان.

أمريكا التي لولا إسرائيل لتفردت برفض التوقيع على اتفاقية الجزاء الدولية، التي ترفض التوقيع على بروتوكولات كيوتو الهادفة لحماية بيئة الأرض، الأقل حماساً لتقديم مساعدات للدول الأفقر بهدف حماية بيئة الأرض أيضاً الخارجة على القانون الدولي، المدمرة لهيئة الأمم والرافضة لتسديد التزاماتها المالية لمنظماتها، غير الموقعة على عدد كبير من الاتفاقات الدولية حول حقوق المواطنين، صاحبة أكبر رصيد من العدوان رغم عمرها الصغير وحداثة خروجها من عزلتها، صاحبة أوسع انتشار وإنفاق عسكري ،صاحبة أكبر استخدام للأسلحة المحرمة ابتداء من رصاص بنادقها، الداعمة لدولة دينية عنصرية إجلائية استيطانية والرافضة لحق طبيعي هو حق العودة ،أمريكا الشعب صاحب أكبر معدل للجريمة وتعاطي المخدرات، الأكثر شراهة للمال والاستهلاك، الأقل ارتباطاً بوطن، الأقل استعداداً للتضحية من أجل هدف عام، الأكثر فردية فلا يعرف ارتباطه بأمريكا إلا كدافع ضرائب، الأكثر أمية ثقافية، أمريكا هذه قوة تقدمية تساير منطق الحياة!.

في أواخر التسعينات، وبعد تخلي أمريكا عن الاستبداد، أجابت أولبرايت عن سر موقفها المتشدد من المقاومة المتهاون مع الاستيطان ب: القتل ليس كالبناء. فهم إذ يقتلوننا فكبشر تقتل حيوانات لفائدة، أما نحن فكوحوش تقتل بشراً.

الحزب الاشتراكي الأوروبي يقترح على برلمان أوروبا قانوناً يطالب الدول العربية " بتطوير جهودها من أجل منح الجنسية للاجئين الفلسطينيين المقيمين على أراضيها، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتسهيل اندماجهم في مجتمعاتها " و " وضع حد لكل أشكال التمييز العنصري ضد اللاجئين الفلسطينيين، كشرط أساسي لتسهيل اندماجهم "، فهل يعرفون كيف ولماذا ومن أين جاء اللاجئون ؟!.

ربما يكون الغرب مع منطق الحياة رغم كل ما سبق لأنه ديمقراطي!.

يختم تشومسكي مقالة عن انتهاك حقوق الإنسان الأمريكي بعنوان"الإعلان الدولي لحقوق الإنسان وتناقضات سياسة الولايات المتحدة الأمريكية" قائلا ً: ظلت الحقائق في أغلب الأحوال "سرية" بدون أي حاجة لمنعها أو حظرها رسمياً. ولا يكاد يخلو كتاب عن الديمقراطية صادر في الغرب من تنبيه كهذا، حتى الكتاب الليبراليين والمحافظين.

■ "مدخل إلى الديمقراطية: 80 سؤالاً وجواباً " وضع بتكليف من اليونيسكو كجزء من برنامجها الثقافي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. يقول مؤلفاه: لا يمكن الوصول إلى مجموع الشعب إلا من خلال وسائل الاتصال الجماعية.. تلعب وسائل الإعلام دوراً سياسياً مركزياً في المجتمعات المعاصرة..لا يمكن لوسائل الإعلام أن تقوم بإنجاز هذه المهام الديمقراطية الرئيسية، إلا إذا كانت مستقلة كما ينبغي، وغير خاضعة لسيطرة الحكومة بالذات أو لجبروت المصالح الخاصة.. أما جبروت سيطرة المصالح الخاصة، فيمكن كبحه عن طريق الحد من التركيز في حق ملكية وسائل الإعلام وبأشكال أخرى تنظيمية ص26 27

■ كاتب «قصف العقول» قدمته سلسلة عالم المعرفة الكويتية على أنه «مؤرخ ومفكر وأستاذ جامعي بريطاني يؤمن بالليبرالية وقريب في اختياراته السياسة من حزب المحافظين» يقول: الخوف والجهل هما العدوان الرئيسيان للسلام. ولقد كانت الوظيفة الرئيسية للدعاية هي إمداد ذلك الخوف وذلك الجهل بالوقود الذي يزيدهما اشتعالاً.. ليس من المقبول أن نسمح بأن يتعرض الرأي العام للقصف بالأخبار والآراء الصادرة من عدد من المصادر المحكومة. فذلك كان هو الطريق الذي سارت عليه النزعة الرومانية والملكيات الاستبدادية التي اعتمدت الحكم المطلق، والشمولية الستالينية والدكتاتورية النازية. أما الرأي العام الحديث فيحتاج إلى فرص أعظم للحصول على الوسائل التي يستطيع بواسطتها أن يتعلم اتخاذ قراره، بدلا من أن يتخذ هذا القرار له.. فوسائل الإعلام أداة قوية من أدوات الحرية والديمقراطية. ويكمن التحدي في أن نضمن ألا يحتكر مصدر واحد للدعاية المعلومات والصور التي تشكل أفكارنا ص377 379

■ جان بيبر شيفنمان وزير الدفاع الفرنسي عام 90، يقول في كتابه ((حرب الخليج دفعتني إلى الاستقالة)): إن التلاعب بالمعلومات وعمليات التضليل لم يبلغا أمثال هذه "القمم" من التطور إلا في الفترة السابقة لحرب الخليج وخلالها. إن مثل هذا الانحطاط الثقافي والأخلاقي " إهانة " لجميع الذين تركوا لأمريكا حرية الكلام وبالتالي حرية العمل، حتى وإن لم يشتركوا فيه ص133.

ولكن البابا الذي يستفيد من مساعدة جميع أجهزة الإعلام عندما يدين (النظريات اللاهوتية للتحرير) والتزام الأنصار المسيحيين بها في أمريكا اللاتينية.. فإن كلامه يخضع للمراقبة ويقاطع ويحجب عن الرأي العام عندما تجرأ على استنكار حرب الخليج شرعياً‍!. إن ذلك برهان صارخ على وجود مقدس فوق المقدس الأكبر‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. وإن مفاتيح رؤوس الأموال في هذه الأيام تفتح أبواباً أكثر من أبواب القديس بطرس. ص 71

و بعد أن هوجمت من داخل فرنسا سرعان ما أصبحت هدفاً لهجمات من اليمين الأطلسي والمتطرفين الداعين ((لإسرائيل الكبرى)). ومن المؤسف أنني لم أجد أي دعم من أصدقائي، وبذلك وجدت نفسي بسرعة في عزلة. ص 49

وجد الوزير نفسه في عزلة لأنه اعتقد أن هذه الحرب يمكن ويجب ألا تقع. ولقد لاحظنا كيف أن بوش الأب أعطى أثناء حربه على العراق وكالات حصرية لبعض وسائل الإعلام، وكيف أن بوش الابن يصدر تعليماته لها، ورأينا فوق ذلك كيف يتم اعتقال المتظاهرين ضد الحرب. وبشكل عام، الديمقراطيون الحقيقيون يلاحظون انتقادات منظمات حقوق الإنسان المتكررة للإدارة الأمريكية التي أصبحت شبيهة بإدارات دول العالم الثالث بين ليلة وضحاها بعد أحداث 11 أيلول. وهي ما تفتأ تنفخ في مخاوف الأمريكيين لتبرر تضييقها على الحريات ولتبرر حروبها العدوانية. أما فرنسا فلقد رأينا حذوها حذو أستراليا في منع محطة المنار من البث رغم شيوع محطات صريحة في عنصريتها في الغرب كله، وتغريم غارودي لأنه شكك بالمحرقة، وفرض الاستقالة على مدير إذاعة فرنسا الدولية لمجرد أنه قال: إسرائيل دولة عنصرية. فالديمقراطية الكسيحة مهددة اليوم في بلدانها، ودون أخطار جدية على المصالح الطبقية أو على الأمن الوطني.

لم يحدث عدوان بدون تغطية أخلاقية، بدلالة كلمتي الانتداب والاستعمار اللتين استساغهما بعض السياسيين والمثقفين أجداد ديمقراطيينا اليوم الذين يعيدون الحياة لفكرة الانتداب، لكنهم ذهبوا مع الدلالة اللغوية وبقيتا في ذاكرتنا بدلالتهما الحقيقية مع أسماء الشهداء والمناضلين. فهل يدرك المروجون أن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي كلمة سر العدوان، وأنهم بما يروجونه يخصبون التربة له ؟. إنه لمما يلحق أكبر الأذى بقضية الديمقراطية أن يكون انفلات هذه الدعوات بالذات هو أول نتائج اتساع الهامش الديمقراطي، أو أول نتائج ضمانات الغرب المقدمة لأصحابها وضعف الدولة تجاهه.

* من مقابلة مع نيويورك تايمز، عدد 23 آذار، نقلاً عن موقع الرأي.

 

■ أكرم إبراهيم