المشهد السوري الملتهب.. تناقضات وتهافتات!

انطلقت الحركة الشعبية في سورية بعد جمود دام نحو أربعين عاماً، وجاء انطلاقها كنتيجة موضوعية ناشئة عن كل التناقضات التي اشتدت في المجتمع السوري وتزايد معدل حدتها بتسارع مخيف في السنوات الخمس الأخيرة.. اشتعلت تلك التناقضات حراكاً شعبياً وليداً متصاعداً، سر به من سر وكرهه كارهون كثر، ربما كان أخطرهم من يتواجدون في صفوفها سراً أو علانية تحت مسميات كثيرة توحي زيفاً بارتباطهم بآلام الشارع السوري.. 

 

لم يستطع الكثيرون استيعاب عودة الجماهير، فالمتعنتون يدعون أن الشارع قال كلمته التاريخية، وحدد خياراته الوطنية والسياسية والاجتماعية من خلال ما رسمته سياساتهم، ويستنتجون من ذلك أن لا مبرر لأي حراك بهذا المستوى «مازال أحد أسباب الاحتقان الحالي على الأرض هو ذلك الخطاب الإعلامي الرسمي الإقصائي المترهل الذي ينكر أو يقلل الكثير من أشكال الاحتجاجات دون أن ينكر الكثير من أسبابها»!.

اما اليائسون وهم إن كثروا أو قلوا، فهم لا يمثلون إلا أنفسهم، إلا أنهم تناسوا كل تقاعسهم التاريخي عن خوض النضال في أزقة المجتمع السوري، وجاؤوا اليوم يعلنون ولاءهم المطلق لهذه الحركة البريئة متناسين كل طروحاتهم السابقة التي لم تكن ترى بأن قوة الشعب هي القوة الحقيقية في التغيير (لا يتواجد في نص إعلان دمشق للتغير الديمقراطي -الحامل الرئيس في ذلك الوقت لـ«المعارضة» السورية التقليدية ذات الوجوه الملمعة إعلامياً اليوم على شاشات الجزيرة والعربية _ أي تغني بذلك الشعب وقدراته العظيمة، لا بل لم يلحظ الإعلان في بنوده السبعة أو حتى مقدمته، أي بند يكترث بأوضاع الشعب المعيشية وحقوقه الأساسية في توزيع عادل للثروة أو تخليصه من الفاسدين والناهبين، وبذلك كان إعلان دمشق وبافتراض حسن النوايا تعبيراً عن مشروع ديمقراطي يكرس تحاصصاً معيناً بين النخب السياسية المنفصلة عن أية قاعدة اجتماعية أو جماهيرية) ..

الحل الأمني

أما الآن وقد اندلع الحراك الشعبي وكثر محبوه، لا بل أيضاً كثر كارهوه، وليس هم فقط تلك الأجهزة الامنية التي تقمعهم على الأرض، بل وبشكل أساسي كل تلك القوى التي لن ترضى عن وجود تعبير موضوعي وعميق عن كل أوجاع الشعب، ويأتي في مقدمتها حاجاته في الحرية والكرامة وحصته من الثروات السورية المنهوبة، تتمثل هذه القوى بكبار الفاسدين والمستثمرين الجدد وحلفائهم داخل جهاز الدولة وخارجه ومن يرتبط معهم بصفته، سيدهم الامبريالي والصهيوني... هؤلاء كلهم سعوا إلى محاصرة الحركة الشعبية بخطوط نارية تسعى إلى خنقها أو قتلها أو حرفها عن مسارها، حيث واجهت الحركة منذ البداية أربعة مخاطر أساسية كانت كفيلة حتى اللحظة بإعاقتها من الاستمرار بشكل صحي، كان أكثرها وضوحاً القمع والعنف الممارس عليها من جانب الجهات الفاسدة المخترقة في جهاز الدولة، وفي هذا المجال يتحمل النظام المسؤولية الكبرى على اعتباره الحاكم الوحيد في سورية، حيث أدى القمع غير المبرر إلى مناخ من الإحباط الذي يترك الباب مشرعاً لتبرير أي انحراف بالإضافة إلى فقدان معظم الثقة بين الحركة وخطاب الإصلاح للبعض في النظام... 

الانقسامات اللاوطنية

على التوازي مع عمليات القمع، سمحت بعض الجهات لنفسها بالعبث المتعمد بالنسيج الاجتماعي السوري مراهنة بذلك على فزاعة الطائفية التي قد تلجم البعض عن الاستمرار في احتجاجه، أو قد تسهم في تصاعد وتيرة الحراك معتمداً على النخوة الطائفية أو العشائرية وفقا لرؤى البعض المقابل «لم تتورع المعارضة من تسمية إحدى الجمع بجمعة العشائر، ولم تدن الخطاب الطائفي للكثير من قواها، فالعرعور بات رمزاً مقبولاً عند كثر من النخب «العلمانية»، لا بل تحدث عبد الرزاق عيد منسق إعلان دمشق في الخارج عن وجود أكثرية طائفية في سورية لا تعاني من الفكر الاقصائي كالتي تعانيه أقلية طائفية حاكمة تسعى للدفاع عن وجودها بشتى الوسائل، فيما رد التلفزيون السوري على جمعة العشائر باستقبال وجوه عشائرية تدعي ولاءها المطلق للنظام، ولم يكترث الإعلام الرسمي بردة فعله تلك إلى مخاطر تكريس المناخ العشائري مبتعدا عن ضربه بنموذج وطني، كما تم اعتماد أسلوب الوعظ الديني من جانب بعض الرموز الدينية المقربة من السلطة على افتراض وجود مناخ ديني  في حراك الشارع يمكن لجمه بخطاب ديني مضاد، كما استمرت قناة الدنيا في تسعير مناخ التوتر بتصويرها لذوي الشهداء وهم يصبون جام غضبهم على قتلة أبنائهم المفترضين من طائفيين ينتمون للحركة الشعبية»... 

السلمية

ظلت سلمية الحراك نموذجاً يحتذى في حراك الشارع العربي، وسرعان ما شذ الحراك الليبي عن ذاك، أما الحراك السوري فقد تمت مناقشة ظاهرة التسلح فيه بمنطق سطحي وغير مسؤول، حيث لم يتورع المنطق الرسمي عن وسم المتظاهرين بغالبيتهم بـ«المندسين» أو «عملاء المؤامرة» أو «الجهلة»..إلخ.. وأريد من ذلك تعميم فكرة عدم مشروعية الحراك طالما لوحظ أي سلاح في صفوفه، واتهم كل الحراك بأنه إما مسلح يستهدف الآمنين من مدنيين وأمن وعسكر، أو مرتع للمسلحين، وفي ذلك مبرر كاف لقمع الحراك.. «ينشر التلفزيون السوري يومياً صوراً للسلاح المصادر وصوراً لشهداء الجيش والأمن، ولبعض أهالي الضحايا الذين قتلوا بيد العصابات المسلحة، دون أن يلحظ أولئك، الشهداء وذويهم الذين سقطوا يهتفون بالحرية وخاصة بعد اعتراف النظام بارتكاب أخطاء على الصعيد الأمني».. و مثلما حاول النظام تعميم ظاهرة السلاح إعلامياً ردت المعارضة بخطاب سطحي انتهازي قائم على مبدأ نفي كل ادعاءات النظام موضوعية كانت أم ملفقة طالما تصب ضده. سمح هذا الموقف الخطير على الحركة والشعب السوري قبل النظام بجعل السلاح ظاهرة علنية لأجزاء غير قليلة من الحراك.. «تعامى أغلب المعارضين عن واقعة جسر الشغور والتي رآها واعترف بها متظاهرون سلميون، حيث رفض أولئك الناس البسطاء على الأرض جنوح بعض القوى إلى التسلح في مواجهة الجيش والأمن، والذي أدى إلى مقتل 120 عنصر أمن بسلاح مستورد حديثاً عن طريق الأتراك»، وبذلك كانت مسؤولية المعارضة مباشرة عن ظاهرة التسلح وفض بكارة السلمية، حيث لم تكتف الوجوه المعارضة بنفي فكرة المسلحين، لا بل قامت بتبريرها منذ البداية. أفضى الخطاب الانتهازي إلى نمو ظاهرة التسلح في الظل مما جعل إعلام الجزيرة يدعي أخيراً قيام بعض عناصر الجيش المنشقة بحماية المظاهرات بالسلاح، وصولاً إلى إعداد برامج يتساءل متحدثوها عن جدوى سلمية الحركة بعد كل ما حصل.. 

التدخل الخارجي

يبقى أحد اخطر المحاذير هو التدخل الخارجي، والذي من الواضح أنه لم يكن تدخلاً عبثياً أو هامشياً أو آنياً، فهو من حيث التنسيق مرتبط بشكل مباشر بكل الاصطفافات الإقليمية والدولية في المنطقة، وهنا لا يمكن لأي أحد أن يجادل في فكرة مساعي الكثير من القوى الدولية والإقليمية للتأثير على عملية التغيير في سورية، وبالتالي التأثير على أهم متغيرات الساحة السورية وهو الحراك الشعبي الوليد، دون نسيان اختراقاتهم في جهاز الدولة والمجتمع. وهنا لا نستطيع الدخول في سجال اللعب الاستخبارية وتأكيدها ونفيها فهي قولا واحدا موجودة ولكنها لا تفعل فعلها إلا في ظروف استثنائية، لكن المهم والملح هو ما نشأ مع الأحداث من فكرة التدخل الخارجي لمساعدة الشعب السوري في تحقيق مطالبه المشروعة. ونجد هنا أن  النظام اعتمد في ابتعاده عن الحل السياسي على فكرة نفي احتمالات التدخل العسكري المباشر على الرغم من حديثه المستمر عن المؤامرة ، فيما أرخى خطاب المعارضة المتواطئ في كثير من الأحيان مع النوايا الغربية بظلاله على خطاب البعض في الحركة الشعبية إلى درجة تبرير التدخل أو استخدام صيغ مخففة له كالضغط الدبلوماسي أو حصار اقتصادي ، وصولاً إلى تبرير ما سمي بـ«جمعة الحماية الدولية».

المسؤولية الوطنية

وبينما استغل النظام ذلك الاسم المقرف للبرهنة على فكرة المؤامرة وتخوين الحراك الشعبي، كان كل من علي حسن مسؤول شبكة شام الإخبارية وماجد العربي الناطق باسم تجمع أحرار دمشق وريفها يطالبون عبر قناة الجزيرة بحماية دولية وفق أية صيغة يراها الغرب أكثر فاعلية!! فهم يرون بالحظر الجوي أو قصف الحرس الجمهوري أو قصف مقرات أمنية أو إقامة منطقة عازلة... خياراً مبرراً، لا بل ضرورياً لوقف قمع النظام. وفي مساعيها التبريرية التحريضية  بثت قناة الجزيرة خبر «تحليق طيران حربي فوق مدينة حمص، كما ادعت انشقاق قوى للجيش في زملكا تشتبك مع قوات الأمن وتوقع فيها خسائر.. مثلما تبنت فيديوهات جيش سورية الحر المنشق وهو يدعي قيامه بعمليات ضد القوى الأمنية»، أما عامر الصادق فتحدث بخطاب انتهازي معوم وغير محدد عن فكرة تدخل مؤسسات دولية وليس تدخلاً عسكرياً، ومن ثم جاء حديث برهان غليون الرئيس المفترض للمجلس الانتقالي السوري فتحدث مبرراً هذا الخطاب ليحمل «النظام هذه المسؤولية ويتحدث عن آليات متعددة للتدخل الخارجي معنوية أو ذات طابع مادي!! ويفضل أن تكون عربية إسلامية»؟!! يتجاهل هذا الخطاب التبريري رغم الدرجة العلمية العالية لصاحبها سيناريوهات تدخل درع الجزيرة ضد ثوار البحرين، كما يتجاهل دعم القوى نفسها لنظام على عبد الله صالح في اليمن مثلما تجاهل ضلوع تلك القوى في تدمير العراق سابقاً وتحميل مسؤولية الدمار لصدام حسين، ونهب ليبيا وتحميل المسؤوليه للقذافي، مكرساً بذلك تلك النظرة الديكتاتورية التي تختصر مصير شعوب في شخوص أفراد يأتون ويذهبون...

 

إن المسؤولية الوطنية للخروج من الأزمة السورية هي مسؤولية كامل الوطنيين الشرفاء، وبناء على ذلك على الجميع اليوم التشارك في حمل المسؤوليات، فإذا كان وقف القمع هو مسؤولية النظام، فان الحركة الشعبية مسؤولة عن إقصاء كل ظواهر التسلح العفوية والمنظمة.. كما ينبغي على الجميع إقصاء الخطاب الطائفي وإدانته على التوازي مع إدانة كل أشكال التدخل الخارجي ورفضها مع كل مبرراتها رفضاً قاطعاً...