المقاومة عندما تُقدم معتلة!
يستطيع المرء إذا ما أراد الإصرار على متابعة بعض الأقلام التي تَنشر في الصحف والمواقع الإلكترونية ذات الطابع القومي, أن يصل إلى نتيجة مفادها أن هناك بعض القوى والشخصيات, ممن لا يرى في سورية أكثر من بندقية حربية، واجبها الوحيد والأوحد تحرير الأرض والتوقف من ثم عند هذه المهمة, أو حتى تضخيمها بحيث تغدو «المقاومة» بنية سياسية مستقلة متكاملة متمايزة تماماً, منفصلة عن باقي مسارات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية. ويطلق عليها - أي على المقاومة - صاحب المقال تسميات سياسية مختلفة, تصب في مجملها في خدمة تيار يرى أن مهمة النظم السياسية اليوم, تتمثل في إخراج الدول من التبعية بناء على توصيفه للمرحلة الحالية على أنها مرحلة تبعية الدول للنظام الرأسمالي العالمي, فإذاً فالمهمة تتلخص لديه اليوم بالانتقال من حالة التبعية إلى حالة «فك التبعية», وبناء على مقدار نجاح أي نظام سياسي في هذه المهمة يتحدد موقف هؤلاء الكتاب منه.
لست بحاجة إلى أن أعيد التأكيد على ثابت يلازم كل ما أكتب بشكل واضح وجلي, إن البندقية التي من واجبها التحرير والعداء للإمبريالية العالمية حتى زوالها, هي مهمة لا يمكن التغاضي عنها لكل من يريد أن يحمل مشروعاً متكاملاً للتنمية في أي مجتمع على امتداد هذا العالم, فاندماج الدول بكامل مقدراتها في منظومة الوعي الإمبريالي المهيمن, لن ينتج إلا مزيداً من الهامشية والتخلف والفشل في أداء المهام الاقتصادية والديمقراطية, ولكن ما أقوله هنا إن النظرة لفعل المقاومة في أية منطقة على امتداد هذا العالم، عليها ألا تنظر إلى العمل المقاوم كبنية مستقلة وكافية بحد ذاتها, بل يجب النظر إليها كمهمة واجبة ضمن مشروع تحول وطني ديمقراطي اجتماعي وغير كافية كبنية, أي تساوقها كمهمة ضمن منظومة أشمل هي منظومة الدولة الوطنية الديمقراطية الاجتماعية, وسأحاول هنا التوضيح بأن المقاومة حين قدمت كبنية متكاملة مستقلة ومنفردة عن المهام الأخرى لعملية التنمية, لم تنتج إلا إعادة إنتاج للتبعية، وإعادة اندماج للدول في النظام العالمي المهيمن, ولو بعد فترة من الزمن.
تخطئ تلك الأقلام التي ينطلق جزء منها من نوايا قومية حسنة, عندما تقوم بتحويل المقاومة من مهمة ضمن بنية عمومية لطابع دولة ما, إلى بنية كافية لملاقاة استحقاقات التنمية, عبر مقاومة المشاريع الإمبريالية أمنياً وعسكرياً, أي أنها ترى أن المشروع الوطني بمفرده عسكرياً, يصبح هو البنية الأساسية والمهمة الوحيدة للدول، فلا يعود من المهم فشل النظم أو عدم رغبتها في ملاقاة الاستحقاقات الأخرى, ونحن وإن كنا نعيب على الديمقراطية الليبرالية فصلها للمسار الديمقراطي أو الحقوق الديمقراطية للشعوب, عن حقوقها الاقتصادية المتمثلة بالمزيد من العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكل دائم بين الفئات, وكذلك فصلها عن حقوق الشعوب الوطنية المتمثلة في نيل استقلالها الكامل وتحرير أرضها واستكمال مشروعها الوطني من حيث قام الاستعمار القديم أو الحديث بقطعه, ونتيجة لذلك الفصل في المسارات فإننا نوصِّف الديمقراطية الليبرالية عادة بأنها «ديمقراطية معتلة»، وهو توصيف دقيق, والاعتلال الحقيقي في الديمقراطية الليبرالية لا يتمثل بكونها في العمق رأسمالية الطابع فحسب, بل ولأنها في الأساس تفصل بين مسارات الحياة العامة, الديمقراطية والاقتصادية والوطنية, وتقدمها وكأنها غير مرتبطة بعضها بالأخرى, فتضخم من دور الحقوق الديمقراطية لتقدم تلك الديمقراطية وكأنها بنية سياسية متكاملة لا تحتاج إلى حقوق وطنية واقتصادية مرافقة لكي تحقق التطور والتنمية.. نعيب عليها ذلك ونجزم بأنها ستعجز عن تحقيق أي تطور سوى تغيير شكلاني في المجال الديمقراطي بعيداً عن أي تأثير مباشر على المجتمع. بناء من الوعي نفسه يمكن لنا أن نعيب على أصحاب الخطاب الذي يقدم المقاومة على أنها بنية سياسية مستقلة لا تحتاج هي الأخرى إلى حقوق اقتصادية وديمقراطية مرافقة العيوب نفسها في اجتزاء الرؤية, وبإسقاط لمصطلح ديمقراطية معتلة الذي نطلقه على الديمقراطية الليبرالية يمكن استخدام مصطلح جديد هنا ألا وهو «المقاومة المعتلة»، وهي معتلة كونها تفصل أيضاً بين مسارات من الواضح علمياً أنه لا يمكن الفصل بينها، فالربط بين المهمات الاقتصادية والوطنية والديمقراطية ربط جدلي, أي أنه موجود حقيقة، ونحن كماركسيين اكتشفناه فقط ولم نخرج به إلى العلن وفقاً لرغباتنا الذاتية.
وتأتي المقارنة هنا بين أصحاب الطرح المعتل ديمقراطياً ووطنياً من حيث أن كليهما يولي نزعته الذاتية مكان الوعي العلمي، فيقوم هو بالفصل بين المسارات، بينما الوعي العلمي للتجربة والتاريخ يعلمنا أن هناك ربطاً لا يمكن فصله بين تلك المسارات من حيث كونها جميعاً تشترك في ذات الأهمية في عملية التنمية فمن يقدم فيها الاقتصاد كبنية مستقلة يتحول إلى اقتصادوي سيعجز عن تحقيق أي تقدم, ومن يقدم الديمقراطية منفردة كبنية فهو يتساوق مع خطاب ليبرالي أثبت فشله بالتجربة, ومن يقدم المهمة الوطنية كبنية متمايزة فلا يقل خطراً عن الطرفين السابقين, وللحقيقة فإن الأزمة في التيارات الثلاثة الأنفة الذكر, أنها جميعاً تقدم صورة سكونية للواقع كبديل عن الصورة الحركية الجدلية, والعقل السكوني هنا هو من يفصل بين المسار الوطني والمسار الديمقراطي والمسار الاقتصادي, مما يحجب الرؤية المتكاملة, إن للديمقراطية المتجذرة كما للمقاومة الجذرية استحقاقات على الأرض ستكون معتلة لولاها, وللحقيقة فإن كلا الشكلين المعتلين «الديمقراطي» و«المقاوم» قد أفضيا إلى النتيجة نفسها مع الزمن في المجتمعات المختلفة, «كومبرادور» جديد جاء بشكل مباشر نتيجة قوانين «السوق الحر» في دول الديمقراطية المعتلة, أو كتطور عن طبقة البيروقراط التي سادت في دول «المقاومة», وطبقة الكومبرادور هذه قد عملت مراراً وتكراراً على إعادة دمج المجتمعات جميعها في بنية النظام العالمي الرأسمالي الجديد, بما يحتويه هذا النظام من هامشية وعدمية للأطراف اقتصادياً وديمقراطياً وسياسياً, ومركزية للمحور الإمبريالي اقتصادياً وديمقراطياً وسياسيا أيضاً. فمصر «المقاومة» في عهد عبد الناصر والتي وقعت أو أوقعت نفسها في عدمية الفعل «المقاوم المعتل» ذاته, والذي حيد أو فصل بين المقاومة واستحقاقاتها اقتصادياً وديمقراطياً, تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة», مما أنتج طبقة من البيروقراط اعتاشت وتكاثرت في الظل على هامشية المسار الاقتصادي والديمقراطي للقيادة المصرية «المقاومة», وطبقة البيروقراط تلك هي الأم الحنون لمصر في عهد السادات, الذي أعاد دمج مصر وطنياً واقتصادياً في النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي, أقول مصر عبد الناصر لم تختلف أبداً في النتيجة الأخيرة حتى الآن عن الكويت أو لبنان أو تركيا أو الأردن التي انتهجت فيها القيادة السياسية منذ البداية نهجاً ليبراليا معتلاً يعلي من شأن الديمقراطية الليبرالية المعتلة فتقدم كبنية منعزلة عن الحقوق الاقتصادية والوطنية للشعوب, فمصر عبد الناصر المقاومة هي نفسها التي أنتجت مصر السادات الذي حطم المشروع «المقاوم» لمصر رغم انه جاء من رحمه!, جاء من رحم مشروع كان يرى في مشروع «المقاومة» بنية عسكرية مقاتلة فقط دون أي اهتمام حقيقي بمستحقاتها الديمقراطية والاقتصادية, وهذا الإهمال للحقوق الديمقراطية والاقتصادية هو ما سمح للأجهزة الأمنية المتغولة بالانقضاض على المكتسبات الوطنية التي ما كان لها بالشكل المعتل الذي قدمت فيه إلا أن تنتج هذا الانقضاض بسبب اعتلالها ذاته.
بناء على ذلك فإن من يسعى اليوم لتقديم صورة سورية على أنها بندقية مقاتلة فقط, مضخماً من دور الموقف الوطني جاعلاً منه بنية مستقلة متكاملة بدل كونه مهمة لازمة ضمن بنية, إنما هو يساعد في تعميق الأزمة من حيث أنه يتجاوز فعلياً واقعاً حقيقياً حاصلاً على الأرض, يتجلى في تضخم طبقة البيروقراط الطفيلي, وتحقيقه مجموعة من الخطا على الأرض نحو لبرلة الاقتصاد, وهو كان عاجلاً أم أجلاً سيحتاج إلى مكافئ سياسي معتل وطنياً, يعبر تماماً عن اندماجه تماماً وتحوله إلى كومبرادور.. أقول من يقدم اليوم لسورية البنية الممانعة فقط, إنما هو يساعد حقيقة في تعميق حدة الأزمة, وهو بذلك لا يختلف كثيراً عمن هو في المعارضة ويفصل أيضاً بين المسار الديمقراطي والمسار الوطني والمسار الاقتصادي, وكلا الطرفين في النهاية سيصل بنا إلى المطاف نفسه, دولة يتضخم فيها دور معين على بقية الأدوار, مما يؤسس وأسس بالفعل لحالة احتقان شديدة تلك التي نرى اليوم نتائجها على أرض الساحة.