د. محمد غفر – الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير د. محمد غفر – الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير

الحراك الشعبي والتقدم الاجتماعي

تتميز عملية التقدم الاجتماعي بصيرورتها التاريخية التي تتعزز بتوفر حمولات ووقائع، منها الذاتي ومنها الموضوعي، فحركة المجتمعات لا تتوقف قط، لكن ريعية عملية التقدم الاجتماعي وحصيلتها التنموية تتقلص أحياناً كثيرة لتدنو نحو أخفض معدلاتها إلى درجة يتسيّد فيها السكون وتستفحل حالة العطالة المزمنة.

إلا أن هذه الوضعية في الأداء، ورغم تضعضعها، تعتبر طوراً مؤسساً طاقياً لمرحلة تُسمى فيزيائياً بالبئر الكموني. فالبئر الكموني ظاهرة فيزيائية تمكّن الموجودات الكوانتية من الصعود نحو الأعلى ضمن بئرٍ فوهته من الأسفل وقاعه نحو الأعلى، مؤدياً ذلك إلى نقل الموجودات إلى سوية طاقية سامية دونما لحظ أي تمييع للقوى الدافعة أو الاقتطاع من طاقتها. أجل، فالقراءة المادية لكل الموجودات والحيّزات ستؤدي إلى الاقتراض من خزينة الطبيعة، وبالتالي اقتناء سلوكيات مخلصة لقوى الطبيعة ومخدّمة لحركة المجتمعات. وعلى هذا الصعيد، يكمن الشوش في القراءة المتقلصة والانتقائية للأحداث الجارية حالياً في سورية. فرغم الإكراه التاريخي الذي مورس على سورية للانخراط الانصهاري في أمةٍ افتراضية بمضامين عروبية – إسلاموية – راشدية، إلا أن أي تناول للمسألة السورية يجب أن يتعامل مع سورية على أنها تطل على جميع الحدائق الحضارية للبشرية وذلك بموجب موقعها الجغرافي ومساهمتها الحاسمة في إرساء المسودة البرنامجية لتطور البشرية. 

هنا، نشير إلى الأهمية الفائقة لإعادة قراءة ماركس وإنجلز بخصوص أولويات وخصائص التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية المرشحة لتولي قيادة الشعوب نحو الحرية والتقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، نبيّن أهمية القراءة النقدية لاستعجال حركة التاريخ الذي وفّق به لينين ودفع ثمنه التاريخ ذاته. فالتاريخ، شئنا أم أبينا، له مساراته الخاضعة لمفاعيل البئر الكموني كنفقٍ لاختزان الميولات نحو مستقبلٍ أفضل يستشرفه المبدعون من كتاب وشعراء وموسيقيين ومسرحيين وباحثين علميين. تاريخياً، وفي المنحى ذاته، جُردّت سورية، وفي العديد من المحطات، من مخازينها التاريخية الحضارية التي أدت إلى هدم الإطلالة المبكرة لسورية على العالم المدني المتحضر. ومن بين المؤثرات السلبية التي أدت إلى هذه المحصلة المأساوية نذكر:

أولاً: الاجتياح الهندو – أوروبي لأقاليم سورية وعشتروتاتها، والذي ترافق مع توحيد الآلهة وحصرها بالذكور؛

ثانياً: الاجتياح العروبي – الإسلاموي للمكونات الإثنية والدينية لسورية، والذي ترافق مع الإبادة الشاملة لصابئتها الذين أجبروا على الدخول في الأداء العروبي – الإسلاموي بعد أن كانوا مشمولين برحمة القرآن، مما أدى لاحقاً إلى بزوغ الباطن الإسلامي كرداء تنكري لإعادة ممارسة طقوس الحالة السورية المزمنة؛

ثالثاً: البغاء الديني – الشوفيني الذي مارسته الدولة العثمانية، الفائقة التخلف، على العذرية التاريخية للمشروع الحضاري السوري، والذي ترافق مع اقتطاع البوابة المعرفية الأهم في تاريخ البشرية: إنطاكية، ومن ثم زجها في ثباتٍ سريري مقيت.

رابعاً: الانتقام التاريخي الذي مارسته الدول الأوروبية ضد سورية عبر تقسيمها إلى كانتونات ألحقت لاحقاً بإمارات البترودولار الراعية، وبدعمٍ أوروبي – أمريكي، للنهج العروبي – الإسلاموي، والذي ترافق مع دق الإسفين الصهيوني في الجسد السوري كتصديرٍ باكوري لأهم منتجات الأزمة العامة للرأسمالية.

خامساً: الوحدة المصرية – السورية التي اغتالت التنوع الفكري والسياسي وأدخلت الشعب السوري في أقبية الصمت والفاقة والتوجس والريبة، مما أدى لاحقاً إلى تمزيق كرامة المواطن السوري الذي تحول إلى رعايا رقمية في سجلات الأنظمة اللاحقة التي هيمن عليها الحزب القائد للدولة والمجتمع.

في ضوء ذلك، يجري تناول غير موضوعي للحراك الشعبي الجاري حالياً في سورية، والذي نعتقد أنه يتميز بما يلي:

1- إنه حراك مبرر ويستند إلى استياء شعبي عارم؛

2- إنه يجري في المناطق المقلقلة الموصوفة بتفشي الفقر والبطالة والجريمة والإدمان على المخدرات، إلى درجة أنه، وفي بعض الحالات، يصعب فيها التمييز بين الحراك الشعبي وممارسة الانتقام كشكلٍ من أشكال ارتكاب الجريمة المشوبة بالضغينة الطائفية والعشائرية وبالذهنية المناهضة للدولة. بصورة أوضح، ما زال الحراك الشعبي في سورية بعيداً عن المراكز الحضرية الأهم كالمدن الرئيسية التي تتصف بأداءٍ صناعي – تجاري - سياحي متقدم، مما يجعل من إمكانية إنضاجه أمراً متعسراً إلى حدٍ كبير.

3- إن الإمعان في الحل الأمني ضيّق من الأداء المدني للحراك الشعبي الذي تبالغ في حجمه المعارضة وكذلك القنوات الفضائية. كما أن هذا الحراك، ونتيجة ترهل الحياة السياسية في سورية، يُمارس في مربعٍ ضيّق ذي امتدادات مغموسة بالتمعدن الطائفي، وكأن النتائج الوخيمة للسياسات الليبرالية تقتصر فقط على التوضعات الطائفية. وللتأكيد على ذلك يكفي معرفة الماهية التي يتعامل فيها الإعلام التركي – الخليجي مع الشأن السوري ومقارنتها مع التجاهل المتعمد للحراك الشعبي في البحرين.

4- إن ارتباط الحراك الشعبي في سورية بتمعدن طائفي معين سيعرّض هذا الحراك، الذي يحاول البعض تنميته في رحم صلوات الجمعة والتراويح ودعوات العرعرة (كبديلٍ ثوري عن الدردرة)، إلى مخاطر مجاورة أداء المجموعات الإرهابية المسلحة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتدخل الخارجي الوقح.

ولكي لا نُفهَم بصورة خاطئة، نؤكد بأنه لا مصلحة لقوى التقدم الاجتماعي بإيقاف أو فرملة أو تجميد الحراك الشعبي، الذي يجب أن يؤدي تأديته المقدسة في اجتثاث تدرنات الجسد السوري وفي ردم التخندقات الطائفية والمذهبية وفي التصدي لقوى الفساد وللقوى التكفيرية والظلامية كقوى مناهضة للتغيير المنشود. هذا من جهة، من جهةٍ ثانية، تتمثل الغاية الأساسية للإصلاح والتغيير في نقل سورية إلى دولةٍ ديمقراطية حديثة يتساهم فيها المواطنون بالحقوق والواجبات. بصورة أوضح، يجب العمل سويةً لتحويل المنظومة: نظام – رعايا إلى المنظومة: دولة – مواطنون. وعلى هذا الصعيد، يُلحظ، ومنذ بداية الأزمة في سورية، الابتعاد التدريجي لمؤسسة الرئاسة عن الهيكلية العامة للنظام، مما دفع الكثير جداً من السوريين إلى تأدية ممارسة تتسم بالانفلات التدريجي من أقبية التريث للنظام والسير قدماً نحو تأييد المشروع الإصلاحي لمؤسسة الرئاسة. كما تتسم هذه الممارسة بمشاركة واسعة للمرأة وبسوية علمانية مرموقة كمؤشرين حقيقيين لمضامين التقدم الاجتماعي. وعلى هذا الصعيد، من الهام جداً على قوى التقدم الاجتماعي رصد هذه الممارسة والاقتراب منها، بل وملاقاتها. فخلال مدةٍ تكاد تكون مرصودة، سينفلت الملايين من أساتذة الجامعات وطلابها وأساتذة المعاهد والثانويات وطلابهما، ومن الكتاب والفنانين والسينمائيين والمسرحيين والإعلاميين، ومن المهندسين والفنيين والعمال والفلاحين والمهرة، سينفلتون من أطقم النظام. ستنفلت قوى الإنتاج المولّدة للتقدم الاجتماعي من غرف القيلولة والعطالة. يتطلب الإخلاص لظاهرة البئر الكموني التوجه المباشر لقوى التقدم الاجتماعي نحو هذه المهارات النوعية والتحاور المكثّف معها ليصار إلى تبني برامج نوعية لإنجاز عملية التغيير على أرضية سلمية الأداءات. حينها فقط، تتعدد روافد الحراك الشعبي النوعي الذي سيضمن ولوج سورية، سلمياً، العتبة الأولى من عتبات الحداثة.