التدخل الخارجي العسكري.. احتمال جدي
استدعت الأزمة الوطنية السورية العميقة، بكل مظاهرها، وخاصةً نزيف الدماء السورية، مختلف مظاهر التدخل الخارجي، فعدا عن الشحن الإعلامي المنظم برزت كل أشكال التدخل الخارجي على شكل نصائح أولاً، ثم مطالب، ثم تهديدات بالعقوبات، ثم عقوبات. ومع استمرار هذه الأزمة تصاعدت لهجة التهديدات بإجراءات سياسية واقتصادية من جانب دول مختلفة، وخاصةً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبشكل خاص بعد صدور البيان الرئاسي عن مجلس الأمن، فاتسعت الدائرة لتشمل دول مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية.
واللافت منذ البداية هو الموقف التركي المعلن الذي تأرجح بين الناصح والمهدد، فأثناء أحداث جسر الشغور ارتفعت لهجة التهديدات ووصلت للتهديد باتخاذ إجراءات عسكرية، ومع الفشل السياسي لعملية تهجير السكان إلى تركيا، انخفضت هذه اللهجة إلى الأمل بإحداث إصلاحات سريعة، ثم العودة إلى» الرسائل الحازمة« ورفع مستوى الاستعداد العسكري على الحدود مع توتر الوضع، وخاصةً في حماة وحمص وإدلب ودير الزور، ومناطق أخرى، ودخول الجيش والقوى الأمنية إليها، وارتفاع مستوى نزيف الدم.
وفي هذا السياق برزت وتبرز مواقف تطمينية لدى بعض الأوساط السياسية المؤثرة في البلاد، حول عدم إمكانية حدوث تدخل خارجي عسكري، استناداً إلى أن الأتراك غير قادرين وليس لديهم المبرر الكافي للتدخل العسكري، وأن أوضاع الأمريكيين في أفغانستان والعراق صعبة، إضافةً لأزمتهم الاقتصادية والمالية، وأن لهجة التهديدات هي تعبير عن عدم القدرة والعجز والتراجع، لا بل والهزيمة، من منطق أنه »تم إلحاق ضربات موجعة بالمسلحين وعصاباتهم التي كانت تمهد بسلوكها للعدوان الخارجي«، ولهذا السبب ارتفعت أصوات التدخل ولهجته وأن كل ذلك يدخل في خانة التشويه الإعلامي، فما هي حقيقة وإمكانية واحتمال التدخل العسكري الخارجي؟.
من الخطأ في هذا المجال الانطلاق في التحليل من الوضع السوري وحده، لا بل من الخطأ أيضاً الانطلاق من الوضع الإقليمي، ولتحديد مدى جدية التدخل الخارجي ينبغي الانطلاق من الوضع الأمريكي ومعرفة وإدراك الوضع العالمي برمته، على اعتبار أن الولايات المتحدة أكبر اللاعبين المؤثرين، فما الذي تقوله وقائع الوضع الأمريكي اليوم؟.
إن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش أزمة اقتصادية ومالية كبرى وعميقة وغير مسبوقة، انفجرت موجتها الأولى خريف 2008 وتلوح موجتها الثانية الآن، ويدور الحديث في الأوساط الاقتصادية الغربية اليوم عن انهيار اقتصادي في المراكز الإمبريالية، وخاصةً أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما يتمظهر الآن على شكل أزمة الديون العامة، وينذر باضطرابات اجتماعية يمكن أن تودي بالنظام الرأسمالي في العالم بأسره.
إن هذا الوضع يجعل الولايات المتحدة الأمريكية أمام أحد خيارين: الأول هو التعامل مع هذه الأزمة بطريقة اقتصادية سياسية، أي التنازل عن دورها العالمي والتنازل عن دور الدولار كعملة عالمية، وخفض نفقات تسلحها والانكفاء عسكرياً إلى حدودها، والقبول بالمركز الثاني أو الثالث عالمياً، ومجابهة تناقضاتها الداخلية الاجتماعية؛ والثاني هو محاولة الحفاظ على وضعها وإضعاف المنافسين وهو ما يعني الخروج إلى الحرب، وهو ما كانت قد بدأته منذ نهاية عام 2001 في أفغانستان، وما سمي بالحرب على الإرهاب، وذلك في محاولة للإبقاء على وضع الدولار واستمرار عملية نهب العالم بأجمعه.
ومن الواضح أن الأمريكيين عازمون على الخيار الثاني، وهو ما تؤكده التجربة العالمية في القرن العشرين، فمع نشوب كل أزمة كبرى كانت الدول الرأسمالية تسير باتجاه الحرب وهو ما فجر حربين عالميتين، وعلى هذا الأساس ينبغي تقدير مدى جدية التدخل العسكري في منطقتنا، فهي منطقة تضم الاحتياطات الأساسية من النفط العالمي (وهو السلعة الأساسية التي يتم تسعيرها بالدولار الأمريكي)، وفي حال نشوب نزاع إقليمي واسع فيها (حرب عالمية مصغرة) سيتم وقف إمدادات النفط وارتفاع أسعاره بما يؤدي إلى الضغط على المنافسين الآسيويين والأوروبيين للولايات المتحدة، وخصوصاً الصين، ويحدّ من تقدمهم دون تأثير يذكر على الولايات المتحدة، ويؤجل بحث وضع الدولار عالمياً، أي يؤجل بحث نهب الولايات المتحدة للبشرية.
على هذا الأساس فإن منطقتنا ومنها بلادنا مرشحة للتدخل العسكري، أي يمكن أن تتحول سورية إلى صاعق لتفجير نزاع إقليمي كبير يمكن أن يبدأ بتدخل عسكري تركي أو أطلسي بقرار دولي أو دونه، على شكل ضربة جوية بداعي حماية المدنيين، وتحفيز التداعيات اللاحقة كدخول إيران على خط الأحداث أو قوى أخرى، وإضعاف جهاز الدولة في سورية وقسمه، سواء عبر الضربة الخارجية أو تنشيط الاختراقات ضمن هذا الجهاز تمهيداً لتحريك صراع طائفي أو ديني أو قومي، أكثر دمويةً على الأرض في سورية، ينتقل إلى مختلف بلدان المنطقة.
أي إن الوضع في سورية والمنطقة يسمح بالتنبؤ ليس إن كان هناك تدخل عسكري أم لا، بل يسمح بالتنبؤ بشكل هذا التدخل أو شكل هذه الضربة، وهي هنا في هذه الحالة ستكون ضربة مركبة؛ خارجية داخلية.
ينبغي أخذ احتمال التدخل العسكري الخارجي على محمل الجد، والعمل لمجابهته، وينتصب بين مهمات المجابهة الحالية أول ما ينتصب حلّ الأزمة الداخلية عبر إصلاحات عميقة وشاملة سياسية واقتصادية واجتماعية أصبحت مفرداتها معروفة »دستور جديد، قانون انتخابات على أساس النسبية، قانون للأحزاب، قانون للإعلام..الخ«، ينتج عنها نظام سياسي جديد يعبر عن ميزان القوى القائم حالياً في المجتمع والبلاد، ويتم فيه اجتثاث الفساد وخلق نموذج اقتصادي يسمح بأعلى نسبة نمو وأعمق عدالة اجتماعية.
إن هذه الإصلاحات لا يمكن لها أن تتم دون حركة شعبية نظيفة وناشطة، والنظيفة هنا لا يمكن أن تتم إلاّ بجهود الحركة الشعبية ذاتها، بما في ذلك تخلصها من المسلحين وليس عن طريق قمعها بل عن طريق رعايتها وفتح الطريق أمام نموها ونضجها، لتقوم بدورها في إنجاز الإصلاحات وحمايتها، وممارسة دورها في الرقابة على جهاز الدولة وضمان نظافته وقيامه بدوره.
إن تأمين هذه العناصر منوط بإطلاق الحوار الوطني الذي يجب أن يضم ثلاثة أطراف (النظام، أحزاب وقوى المعارضة، ممثلي الحركة الشعبية)، بعد تأمين متطلبات هذا الحوار من إطلاق سراح المعتقلين على خلفية الأحداث، ووقف قمع الحركة الشعبية، وإن إنجاز هذه العملية ونجاحها يمكن أن يسمح بإيجاد تحالف وطني للقوى الشعبية والجيش الوطني في مجابهة احتمال التدخل العسكري الخارجي، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.