سورية: الأزمة والعدوان والحالة الانتظارية..
ليس من قبيل المصادفة بالمطلق أن إعادة تسليط الأضواء إعلامياً على الطور الجديد من الأزمة الرأسمالية العالمية- الأمريكية الدولارية الإئتمانية تحديداً- تزامن مع تبلور جوقة جديدة من التحريض والاستعداء الخارجي ضد سورية: تصعيد «الحزم» التركي، قرارات وبيانات مجلس الأمن، مجلس حقوق الإنسان، محكمة العدل الدولية، مجلس التعاون الخليجي، سحب عدد من السفراء للتشاور، المحكمة الخاصة بلبنان، الوكالة الدولية للطاقة الذرية و«ملف سورية النووي»، الخ...
ولكن واحداً من أهم مفاعيل الأزمة هو تحضير الأجواء الحربية والانتقال إلى مرحلة أخرى من الهجوم على الشرق برمته عبر البوابة السورية، لأن الولايات المتحدة محكومة بالحرب وهي تخشى من انتقال عدوى الاحتجاجات الشعبية من الجياع والمهمشين في بريطانيا وحتى في الكيان الصهيوني، على اعتبار أن أزمة الدولار والديون الأمريكية وارتفاع الذهب في المقابل لأسعار غير مسبوقة لا يحلها عدوان على سورية وحدها لأن حلها الآن يكون عبر حرب شاملة متوسطة الشدة في المنطقة، أي اشتعالها من لبنان حتى إيران مروراً بسورية والعراق، وكل حسب ظروفه ومعطياته. وهي حرب لن تسلم داخلياً منها لا تركيا ولا حتى دول الخليج، على اعتبار أن الامبريالية عموماً والولايات المتحدة خصوصاً تنظر للمنطقة كساحة حرب واحدة للهيمنة والسيطرة وإيجاد مخارج مؤقتة من أزمتها الشاملة التي يمكن أن تكون نهائية، إذا ما توافر العامل الذاتي لدى الشعوب.
ولكن بالمثل فإن حرباً كهذه ستسمح لواشنطن «بتسييل» ديونها، أي التحكم بمصادر وتوريدات النفط المتجهة إلى الصين واليابان وأوربا، لإيجاد حلول مؤقتة لهذه الديون ومتأخراتها.
ثمة سؤال يطرح نفسه: هل ستلجأ واشنطن إلى الحرب المباشرة أم بالإنابة؟
الأسهل، ولاسيما للتسويق الداخلي الأمريكي، هو حرب بالإنابة، وهنا يأتي دور تركيا أردوغان تحديداً (أي من يتحول لأن يكون «غورباتشوف تركيا» الذي سيضيع بسياسته على المدى المتوسط والبعيد تركيا المعاصرة بحدودها ووزنها الجغرافي الديموغرافي كما أضاع العثمانيون إمبراطوريتهم غير مأسوف عليهم). وهذا الدور يكمن وراءه فهم جملة التغييرات «الانقلابية» الداخلية التركية التي يجريها أردوغان ولاسيما في صفوف الجيش، بهدف افتعال عمل عسكري ما ضد سورية، يمتد إلى بقية بلدان المنطقة بتأثير الدومينو دون أن تكون واشنطن طرفاً مباشراً فيه.
بناءً عليه، ودون إعطاء أي مبرر على الإطلاق للعنف واستبداد الدولة في تعميم قمع الحركة الشعبية الاحتجاجية المشروعة تحت يافطة استئصال المسلحين والإرهابيين، ومن دون الدخول في لغط مع من سيجادلون في المقابل بعيداً عن موازين القوى الداخلية على الأرض في سورية أن الوارد أعلاه هو «إطالة في عمر النظام» دون أن يروا مخاطر ذلك التحريض الخارجي على سورية كوطن أولاً وأخيراً، فإن المطلوب من الوطنيين السوريين اليوم، وأينما كانت مواقعهم، هو تخفيف الخسائر المحتملة في المواجهة الخارجية الوشيكة والذهاب بسرعة إلى حلحلة الوضع الداخلي السوري، ووقف الحالة الانتظارية لتطورات التصعيد الخارجي وتحضير كل ما يلزم، كحد أدنى لمنع العدوان على سورية، أو كحد أعلى لاتخاذ مبادرة فتح الجبهة مع العدو الأساسي، «إسرائيل»، والتي لن تجد حتى واشنطن غضاضة في زجها في أي معركة تهدد حتى وجود الكيان، طالما كان ذلك يطيل من عمر الولايات المتحدة الغارقة أكثر فأكثر في أزمة وجودها كدولة احتكارات ومجتمع غير متجانس أصلاً.
إن آخر هموم التحريض الخارجي على سورية تحت يافطة الانتصار للسوريين هو حقن الدماء السورية، بل إن أولها هو زيادة النزيف السوري وتفكيك الدولة عبر التصعيد لإحداث المزيد من الفوضى والتشرذم والحسابات الضيقة، في ظل اكتساب بعض المتظاهرين المستدعين للتدخل الخارجي زخماً، وإعطاء أنصار الحلول الأمنية القمعية الصرفة الذريعة للإيغال في محاولات القمع والتنكيل الهادفة بالدرجة الأولى إلى استمرار نظم الفساد واحتكار سلطة الثروة وتوزيعها غير العادل، بما يلتقي للمفارقة لدى الطرفين مع غايات ذاك التصعيد، والحصيلة هي وضع السوريين مجدداً أمام ثنائية وهمية مستوحاة من المشهد العراقي عشية الغزو في 2003 (إما النظام أو الأمريكان)، أي إضعاف الوطن والجيش وعموم السوريين بمن فيهم أنصار الحلول السياسية من مختلف المواقع والمشارب.
لقد استطاع الشعب السوري موحداً حول جيشه في الخمسينيات من القرن الماضي ردع احتمال العدوان التركي آنذاك، وكوّن مقاومته الشعبية في طول البلاد وعرضها، والتي استطاعت أن تحقق هدفها... واليوم تنتصب مهمة مماثلة تتطلب تكوين بنى المقاومة الشعبية ظهير الجيش الوطني في مواجهة أي احتمال للتدخل الخارجي، وفي ردع نواتات الميليشيات الطائفية المسلحة التي تكونت فعلياً هنا أو هناك، والتي ستتحول في حال أي عدوان خارجي إلى طابور خامس لقوى هذا العدوان ولأهدافه، لأن هذه الميليشيات هي في نهاية المطاف الذراع المسلحة لقوى الفساد الكبير في جهاز الدولة والمجتمع، ولبعض القوى والتيارات التي تدعي رفع لواء الدين وتعتمد التكفير وتمارس أحياناً القتل على الهوية. وهذه الميليشيات بشقيها المتناقضين ظاهرياً مرتبطة المصالح حتى نخاعها الشوكي مع قوى العدوان الخارجي.
إن هزيمة المخططات الخارجية وكسر الثنائيات الوهمية يتطلب اليوم قبل كل شيء هزيمة المليشيات الطائفية المسلحة من كل شاكلة ولون بالتحالف العميق للشعب المقاوم والجيش المقاوم بما يؤمن كرامة الوطن والمواطن.