الافتتاحية ارتفاع الأسعار بين الأسباب والنتائج

طالعتنا الصحف المحلية يوم الثلاثاء الماضي بأخبار اجتماع حكومي استثنائي لبحث ارتفاع الأسعار والتصدي له، وما تمخض أولياً عن هذا الاجتماع هو الإطاحة بمدير توزيع الغاز، مع وعود بدراسة زيادات على الأجور، ومحاولة البحث عن أسباب ارتفاع الأسعار.
الغريب أن كل النقاش الذي عرضته الصحافة والذي جرى في مجلس الوزراء حول هذا الموضوع، يوحي بأن الحكومة تبحث عن أسباب الظاهرة والمسببين، وكأنما لا علاقة لها ولسياساتها بما يحدث.

المطلعون والاختصاصيون نبهوا منذ فترة إلى أخطار الوزمة التضخمية القادمة قبل وصولها، ولكن آذان الحكومة كانت مسدودة، ولم تصدق إلا عندما وقع (الفاس بالراس)، وعندما اقتنعت أخيراً أن هنالك ارتفاعات في الأسعار، رغم أنها غير جديدة، بل إن ملامحها الواضحة بدأت تظهر منذ أوائل العام الفائت، تبين أن معالجاتها جاءت متأخرة وقاصرة.
متأخرة لأن العمل القيادي في مجال الاقتصاد وفي كل المجالات  يتطلب التوقع والتنبؤ، وليس اللحاق بالظاهرة بعد استفحالها واكتشافها والاعتراف بها بعد تحولها إلى أمر واقع.
وقاصرة، لأن معالجة ارتفاع الأسعار من زاوية الأسعار فقط أو من زاوية تحميل المسؤولية لباعة المفرّق كما فعل أحدهم، هو تحليل لا يرقى إلى مستوى التحليل الكلي الذي يجب أن يرى أسباب الظاهرة بشكل شامل.
فما يعني ارتفاع الأسعار من وجهة نظر الدلالة الاقتصادية ـ السياسية؟
إنه يعنى شيئاً واحداً فقط... وهو استمرار إعادة توزيع الدخل بين الأجور والأرباح لصالح الأرباح.
فالأجور بثباتها، تتناقص قوتها الشرائية بارتفاع الأسعار، وبالتالي تنخفض حصتها من الدخل الوطني. أما الأرباح التي هي عادة صاحبة الأسعار، فتزداد حصتها على المستوى الكلي، وارتفاع السعر عند بائع المفرق ما هو إلا المظهر الخارجي والشكل النهائي الذي يعبّر فيه السعر الجديد عن نفسه، والذي تذهب مكوناته الرئيسية إلى أصحاب الأرباح الكبيرة من وكلاء ومستوردين وتجار جملة وموظفين كبار فاسدين.
إذن، إن كان ارتفاع الأسعار هو هكذا من وجهة نظر الدلالة الاقتصادية ـ السياسية، فمن المسؤول عن ذلك؟
إن المسؤول أولاً وأخيراً هو السياسات الكلية الاقتصادية الانفتاحية التي مارستها الحكومة الحالية باستعجال، والحكومات التي سبقتها بسرعات مختلفة منذ أواسط التسعينات.
أحدهم كان يقول: «أنا أذكى من أن أتعلم من تجاربي، بل أفضّل أن أتعلم من تجارب غيري».
وغيرنا ممن سبقونا على طريق السياسات الانفتاحية، وخاصة في أمريكا اللاتينية، يغيرون اتجاه السير، ويعيدون الاعتبار للسياسات الاجتماعية التي تعتمد على دور كبير للدولة في التحكم بالموارد المالية والمادية. وما استعادة الملكيات الكبيرة إلى الدولة التي أعلنت عنها فنزويلا إلا دليل على ذلك (تأميم قطاع الاتصالات والكهرباء والنفط)...
إن ما نراه اليوم من ارتفاعات للأسعار، وهبوط حر لمستوى معيشة المواطن لا يمكن حله بالترقيع عبر رفع جزئي للأجور، إذا لم يُقض على الأسباب العميقة للظاهرة، مع أننا نؤيد أي رفع للأجور من مصادر حقيقية أي على حساب الأرباح تحديداً، بل حله الجذري يتم عبر إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية العامة وتغيير اتجاه سيرها، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.