شيوعيون معادون للشيوعية
وأخيراً، وليس آخراً، طلعت علينا مجموعة قالت عن نفسها إنها تضم في صفوفها «أعضاء في المجالس الوطنية واللجأن المركزية والمكاتب السياسية واللجأن المختلفة في الحزب» من الحاليين والسابقين، وعقدت اجتماعاً في «ملتقى النهرين» أعلنت إثره «التصميم على اتخاذ كل الإجراءات القأنونية والسياسية والتنظيمية لتغيير هذه القيادة (أي هيئات الحزب القيادية المنتخبة في المؤتمر التاسع) والتحضير للمؤتمر العاشر».
واعتبرت المجموعة أن الوضع في الحزب «قد تفاقم حتى بلغ القاع، حين جرجر المكتب السياسي بعض المناضلين إلى ساحات الفرز الطائفي»، وأن ذلك المكتب قد «قرر عامداً متعمداً دعوة الشيوعيين للالتحاق كل بطائفته»، داعيةً إلى إخراج الحزب من «الأتون المذهبي والطائفي الالتحاقي الذي زجّ فيه قسراً». وعلى طريق عقد المؤتمر العاشر المزعوم صرح أحد «القياديين» من أعضاء المجموعة بأنهم بصدد استئجار مكتب يكون مركزاً لعملهم. ولم توفر مجموعة «ملتقى النهرين» الحزب وقياداته من نعوت «المتاجرة» و«التسول» والاستيلاء على أمواله وأملاكه وغيرها من التعابير التي ينضح بها الإناء الذي تصدر عنه.
لن نناقش المجموعة في الاتهامات السياسية والتنظيمية التي توجهها إلى الحزب لأن المسألة ليست هنا أو هناك، بل في مكأن آخر. نكتفي هنا بسؤال تلك الكوادر القيادية التي أنتخبت في المؤتمر التاسع: هل «التزوير» قد طالها هي أيضاً؟ وكيف اضطلعت بالمسؤوليات التي ألقاها على عاتقها من أنتخبها؟
أزمة الحزب تعود إلى مرحلة الحرب الأهلية عندما ارتضت القيادة السابقة خلالها القبول بأطروحة «الطوائف الوطنية» و«الطوائف غير الوطنية» والتحقت تبعاً لذلك بالمشروع الطائفي الإسلامي، ثم عندما رفضت بإصرار بعد أنتهاء تلك الحرب إجراء مراجعة نقدية لسياسات الحزب وممارساته طوال مرحلة ربع قرن شكلت واحدة من أخطر مراحل تاريخ وطننا المعاصر. ثم عندما أجهضت المبادرة التاريخية لحزبنا التي تمثلت في أنطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنأنية وتنكرت لدماء وتضحيات أبطالها وذلك من خلال مشاعر الغرور التي عصفت بتلك القيادة، وقبولها بإدخال جبهة المقاومة الوطنية في لعبة محاور الأنظمة العربية، الأمر الذي سهّل على النظام العربي الجار، وعلى قوى طائفية داخلية الإجهاز عليها.
والمسألة تكمن أيضاًَ في أن «مجموعة الخمسة» التي تولّت قيادة الحزب طوال أربعين سنة لم تتمكّن من إخلاء المكأن لغيرها من الكوادر الشابة التي أثبتت جدارتها في ظروف استثنائية وأصبحت تنظر إلى الحزب جزءاً من أشخاصها. ألا يلفت النظر أن الأربعة الباقين من تلك القيادة بعد استشهاد جورج حاوي قد أصبحوا جميعهم خارج الحزب، واستبدلوا بطاقة بأخرى، وأنقضّوا على الحزب بهذا الشكل أو ذاك؟
على كل حال، وفي هذا المضمار، فإن التذاكي لن يفيد أصحابه. وإذا كأن واحد فقط من أعضاء تلك «القيادة التاريخية» قد أعلن اسمه بين أسماء مجموعة «ملتقى النهرين» فإن الجميع يعرف، في الحزب وخارجه، أن هناك اثنين أيضاً لم يعلنا أسماءهما من باب «حفظ خط الرجعة» ومن باب إضفاء الطهورية على شخصيهما لكي يؤديا في المستقبل دور المحايد والمنقذ.
ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء ليرى أن هذه «الأنتفاضة» تأتي في سياق عمليات سبقتها سواء في إطار «اليسار الديموقراطي» أو في إطار ما جرت تسميته أخيراً «حركة اليسار اللبنأني» المعروفتين بأنتمائهما إلى تجمع 14 آذار.
على أن المحـاولة الأخيرة تتميز بكونها تريد أن تختصر الطريق وأن تطلق النار على القلب فتنكر بكل بساطة وجود الحزب الشيوعي اللبنأني وتنتحل اسمه وفصله وأصله....
...وإن هذا الأمر يؤسس لتقاليد جديدة في الحياة السياسية اللبنأنية لا يجمعها جامع باحترام الآخر وحقه في الوجود، ولا يجمعها جامع بالديموقراطية.
يهمنا أن نسجل أن هذه المحاولة الهجومية تأتي في سياق الحملة التي يتعرض لها الحزب الشيوعي اللبنأني الذي سار شوطاً كبيراً بعد مؤتمره التاسع في إعادة الاعتبار للأسس الديموقراطية في التنظيم ولاستقلاليته السياسية التي لا تعني أبداً الحياد إزاء العدو.
أن هذا الحراك هو جزء من الصراع الدائر في وطننا وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي بين القوى المعادية للإمبريالية وقوى القبول والردّة التي يشكل غالبيتها اليساريون السابقون الذين تيتّموا بعد زوال الاتحاد السوفياتي وصاروا يفتشون لهم عن مكأن في غير مكأنهم، وليس من دون معنى أن يأتي هذا الهجوم في الوقت نفسه الذي تبادر فيه قوى الموالاة إلى هجوم مضاد واسع النطاق يترافق مع الهجوم المضاد الذي تشنه واشنطن في المنطقة.
تبقى مسألة نود أن يدركها جماعة «ملتقى النهرين». إننا نأخذ على محمل الجد تهديداتكم «القأنونية». فنحن نعرف أن تلك القوى التي تقف وراءكم قادرة على تسخير الأجهزة الأمنية والقضاء من أجل تصفية الحزب الشيوعي اللبنأني ومن أجل وضعه خارج الشرعية.
هذا ليس بجديد على الشيوعيين اللبنأنيين. فهم قد خبروا طوال ثمأنين سنة من نضالهم ظروف العمل العلني وظروف العمل السري. وهم يعرفون أن لكل من هذه الظروف إيجابياته وسلبياته. يريدون أن يعرف الجميع أن ظروف العمل السري على صعوبتها تسمح للحزب بأن يتجاوز الكثير من الضوابط وخصوصاً في التعامل مع القوى المعادية والمرتدة.