الشيوعية والأحزاب الشيوعية -3-
طروحات الأحزاب الشيوعية انطوت على اجتهادات لا حصر لها. وحتى ماركس لم يبق خلال نضاله الواقعي متفقاً اتفاقاً حرفياً مع مفاهيمه في أربعينات القرن التاسع عشر. ولم يكن ذلك بالطبع انحرافاً، وإنما كان متفقاً مع طبيعة القضايا التي عالجها في مسيرته الفكرية والثورية.
القضية الهامة، التي كانت محوراً لجدلية واسعة ومصيرية لدى الأحزاب الشيوعية هي في كون مرحلة المجتمع الرأسمالي لا يمكن تلافيها. فهمتها أحزاب الأممية الثانية بضرورة المساعدة على إنجاز المرحلة الرأسمالية ووصل الأمر في ذلك إلى طرح تأييد الاستعمار. لنتجاوز هنا موضوع حسن النية أو سوء النية، غير أن الأحزاب الشيوعية بتأييد الاستعمار تتجاهل أمرين، الأول هو أن الأحزاب التي تنادي بذلك تشارك ولو معنوياً، في الجرائم الدولية، التي ترتكبها الإدارات الاستعمارية، والثاني هو أن المجتمع الرأسمالي لا ينجز بمعزل عن البروليتاريا، فهذه تولد في أحشاء هذا المجتمع، وتناضل في أحشائه، وهي التي تنتقل به إلى مرحلة ما بعد الرأسمالية.
قضية هامة وجدت في نفس الإطار، ظهرت من خلال نضال الحزب الديمقراطي الاجتماعي الروسي. لقد انقسم الحزب في 1903 إلى كتلتين: الأكثرية «البولشفيك» والأقلية «المنشفيك». ففي رأي البلاشفة يجب الانتقال، إذا ما نجحت الثورة مباشرة إلى بناء نظام اشتراكي، أما المناشفة فيطرحون ضرورة الثورة الديمقراطية أولاً، أي إقامة دولة ديمقراطية على النمط البورجوازي الغربي.
قامت ثورة أكتوبر 1917 في روسيا القيصرية بقيادة البلاشفة، وبدأ النضال من أجل بناء نظام اشتراكي. لم يكن أساس نظري سوى الأدبيات الماركسية، ووجهت الثورة مباشرة بالحرب الأهلية. قأقامت القيادة ما سمي بشيوعية الحرب، التي دامت من 1918 إلى 1921، والتي كان هدفها توفير السلاح والغذاء للمدن وللجيش، وكانت الحرب العالمية الأولى قد دمرت كل العلاقات والميكانيسمات الاقتصادية في البلاد.
قامت القيادة البلشفية:
ـ بتأميم الصناعة، وأخضعتها لإدارة مركزية قاسية.
ـ باحتكار الدولة للتجارة الخارجية.
ـ بفرض الانضباط الصارم على العمال، والإضراب يعاقب بالرصاص.
ـ بفرض العمل الإجباري على «غير الطبقة العاملة».
ـ بمصادرة الفائض الغذائي لدى الفلاحين، من أجل توزيعه مركزياً على بقية السكان.
ـ وبحظر أي مشروع فردي، وجعله غير قانوني.
ـ بسيطرة شبه عسكرية على الخطوط الحديدية.
شيوعية الحرب مضافة إلى الحرب الأهلية، جعلت شعوب عموم روسيا يجوعون ويعانون الأهوال، وانتصارهم على تلك المرحلة يؤلف ملحمة تاريخية، ما كان بإمكان أي شعب أن يحققها.
وفي 21 آذار 1921 أعلنت السياسة الاقتصادية الجديدة «النيب ـ نوفايا ايكوفوميتشكايا بليتيكا»، وكانت غايتها رفع الثقل الكبير، الذي فرضته شيوعية الحرب على الفلاحين.
سمحت النيب للفلاحين ببيع منتجاتهم الفائضة مع دفع رسوم، كما سمحت بالتجارة الصغيرة بالمواد الغذائية.
ثورة 1917 وشيوعية الحرب طرحتا أسئلة تاريخية ما تزال قائمة: هل يمكن لثورة اشتراكية أن تقوم قبل أن تنجز الرأسمالية مرحلتها؟ هل يمكن لثورة اشتراكية أن تقوم في بلد واحد، من دون أن تقوم في نفس الوقت في البلدان الأخرى؟ هل يمكن لثورة اشتراكية أن تقوم في بلد ضعيف التطوير، اقتصاده زراعي بالدرجة الأولى؟ هل يمكن لثورة اشتراكية أن تقوم دون أن تصل الطبقة العاملة إلى مرحلة نضوج تاريخي كاف؟ هل يمكن لثورة اشتراكية أن تقوم على يد حزب، قيادته من الانتلجنسيا، وجمهوره المناضل من العمال المهمشين ومن الجنود ومن الفلاحين؟
الجواب العملي والواقعي للينين هو بالإيجاب على كل تلك الأسئلة. لو كانت ثورة 1917 ديمقراطية بالمعنى الغربي، لنتجت دولة ضعيفة أخرى إلى الثالثية منها إلى الأوربية، ولجزأتها القوى الاستعمارية الدولية،واستعمرتها، وأصلاً هذا ما حصل تقريباً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينات القرن الماضي رغم امتلاكه لأضخم وأعقد الترسانات العسكرية، ولأعلى التقنيات، ولاقتصاد راسخ.
القيادة البلشفية لم يكن لديها كلها الأجوبة و الحلول نفسها، وبعدما توفي لينين في 1924، أو منذ وقوعه في غيبوبة في 1922، تصارعت القيادة فيما بينها، وبصرف النظر عن النوايا الحسنة أو السيئة في ذلك، فإن الصراع كاد يودي بثورة 1917، ويضعها في الزاوية المنسية من ذاكرة التاريخ، غير أن جوزيف ستالين انتصر، وأعطى الثورة دماً جديداً. أصلاً كان لستالين دور أساسي في انتصار الثورة ف الحرب الأهلية.