كيف أصبحت شيوعياً
ضيفنا لهذا العدد الفنان التشكيلي الرفيق د.غسان منيب السباعي
من الرفاق بتنظيم «النور»
رفيقنا المحترم د.غسان كيف أصبحت شيوعيا؟.
بداية من الطبيعي أن أعرّف بنفسي: أنا من مواليد مدينة حمص عام 1939، كان والدي طبيبا، تعلمت بمدرسة الراهبات ثم في الابتدائية الرسمية فالتجهيز الأولى، ونلت البكالوريا عام 1958. تعرفت على الشيوعية من خلال مكتبة خالي الرفيق برهان السباعي، وما شدني للحزب- ليس الواقع المعيشي، فأنا من عائلة ميسورة الحال- بل شدني ما ملأ نفسي من مشاعر الكره للظلم الذي رأيت صوره القاسية بوجوه الخادمات الصغيرات في منازل الجيران، حين كان يأتي بهن آباؤهن للعمل في بيوت الأغنياء من الجيران لقاء أجر سنوي(100) ل.س، فيتم حلق شعورهن وغسل رؤوسهن بالكاز للقضاء على القمل، ليصبحن بعدها مباشرة آلات خدمة شاقة لسنوات طويلة بلقمة محدودة ولباس عمل ونوم بزاوية مهملة من زوايا البيت..
كذلك جذبني للحزب ما جذب الكثيرين غيري من مشاعر الإعجاب برفاق شباب ذوي سمعة جيدة أمثال ظهير عبد الصمد وموريس صليبي وبدر الدين السباعي الذين كانوا قدوة مشرفة للشباب. في عام 1959 اشتركت بالمظاهرة الكبرى التي انطلقت لتشييع الرفيق الشهيد المعلم سعيد الدروبي الذي استشهد تحت التعذيب البربري بأقبية المباحث، وعقب مواراته الثرى في المقبرة ألقى الرفيق رياض الترك كلمة أشادت بالشهيد الغالي ونددت بالمجرمين القتلة وبحكم الإرهاب، وما أن انتهى التشييع حتى بدأت حملة اعتقالات واسعة لكل من شارك بتلك المظاهرة الحاشدة، فتواريت عن الأنظار بغرفة أحد عمال الأنوال اليدوية في البساتين.
- كلفت ببعض المهام بين دمشق وحمص ثم بين حمص ولبنان، وفي إحداها اعتقلت على طريق طرابلس وأودعت قبو المباحث لمدة عشرة أيام حقق معي خلالها عبدو الحكيم، ثم نقلوني إلى سجن حمص لأبقى فيه أكثر من ثلاثة أشهر، التقيت حينها بالرفاق يونس فلاحة وبرفيق أرمني نسيت للأسف اسمه وإسماعيل الكردي وهم من العاملين بسد محردة، وكان للرفيق إسماعيل دوره برفع معنوياتي وبث روح الشجاعة، فقد حدثني أنه أعتقل عدة مرات خلال عهد الحكومات الديكتاتورية التي زالت، واليوم أيضا سيزول هذا الحكم المتسلط وسيطلق سراحنا، وقد قّّدّمت للمحكمة التي اكتفت بالمدة التي أمضيتها في السجن و«أمرت» بإطلاق سراحي، لكن المباحث التي كانت فوق المحاكم أبقتني أسبوعين «بضيافتها» ثم سافرت بعدها إلى مصر وقدمت أوراقي لكلية الفنون بالقاهرة فرفض طلبي «بادعاء أنني شتمت العميد الذي لم أسمع به أصلا» فانتقلت إلى الإسكندرية ودخلت فيها كلية الفنون، ونلت شهادتها عام 1964 وعدت إلى الوطن، وأديت الخدمة العسكرية، ثم التحقت بالعمل في مشروع محطة تلفزيون السعودية أنا ورفيقي زكريا تامر، وبعد شهور معدودة ألغي عقدنا بدعوى«تهديد الأمن» فرجعنا إلى بلدنا، ثم سافرت إلى فرنسا لمتابعة الدراسة، وهناك
أتيحت لي فرصة قراءة الكثير من الكتب السياسية والفكرية والفنية، وعايشت العمل مع الرفاق الفرنسيين، وكان في صفوفهم خيرة الأدباء والفنانين والمثقفين، وهنا لا بد من إيضاح أن الإحساس الفني والأدبي عامل أساسي يجعل حامله وبشكل طبيعي في ركب التقدم ويشده أكثر إلى الفكر الشيوعي، لأنه ينطلق بحكم إحساسه الإنساني (الفني) مستشرفا عالم المستقبل الأجمل ساعيا لتجسيده واقعاً حياً.
حصلت على شهادة الدكتوراة وعدت إلى الوطن لأتابع التزامي الحزبي ولأمارس عملي الفني والتدريسي، وكما يعرف الغالبية من الرفاق فقد طرأت تبدلات على أداء الحزب نتيجة الابتعاد عن ساحة النضال الفعلي، والقبول بدور محدود، أضحى أقرب ما يكون للعمل الوظيفي، وقد لاحظت تبدل النظرة نحو المثقفين والفنانين الذين كانت لهم سابقا مكانتهم وحضورهم في صفوف الحزب، فقد بدأت تتفشى ظاهرة غريبة عن الشيوعيين تمثلت بسرعة إطلاق الاتهامات في كل شاردة وواردة لتتداخل الأمور وينحسر شيئا فشيئا شعور الاعتزاز بالروح الرفاقية. وإنني أحمّل مسؤولية ذلك لقيادات أصبح كلّ همها «جمع الأزلام» لتبقى في مراكزها القيادية التي تحقق لها مصالحها، ممارسة سياسة قمع الرفاق، متجاوزة أسس التنظيم الحزبي، وبرأيي فإن «تشبثها بالمركزية وتنكرها للديمقراطية» جعلها تفتقد القدرة على القيام بمهام القيادة الفعلية، وأنا أرى أن الديمقراطية حاجة حياتية وإنسانية داخل الحزب وفي المجتمع والدولة، ولكي يستعيد حزبنا أداء الدور التاريخي المنوط به، على جميع الشيوعيين أن يجابهوا التشرذم والانقسامات بسلاح الفكر العلمي الذي يعي الواقع والتطور ويتابعه عملاً صادقاً حياً بين جماهير الشعب وفي مقدمتها لبناء المجتمع والوطن الأعدل والأفضل.