خارطة الخوف والجرأة..
لعبت بعض وسائل الإعلام في الأحداث التي تمر فيها البلاد دور المدرّس الذي يمسك بيده دفتراً للعلامات ودرجات السلوك, ويضع تقديراته حول حجم النشاط وانتشاره في محافظات البلاد التي أصبحت فجأة كيانات منفصلة لا جامع بينها..
هكذا شعر سكان بعض المدن والمحافظات كما لو أنهم طلبة أغفلوا كتابة وظيفتهم أو حفظ درسهم، تتملكهم مشاعر الخجل مع ظهور خريطة بلادهم دون أن يروا الإشارة الحمراء تضيء بجانب اسم محافظتهم أسبوعاً بعد آخر.
هذا الشكل من التغطية الإخبارية (والذي ركز على تصدير التظاهر كالشكل الأوحد للحراك والتغيير)، خلق نوعاً من الضغط على بعض الشرائح المنتمية إلى محافظات لمّا يتغير فيها المناخ العام بعد, لدرجة تدفع بأغلبية السكان فيها إلى التعبير عن مطالبهم في الشارع.
وفي المقابل عانت هذه المحافظات (وخصوصاً الصغيرة منها، والتي تتميز بنسيج اجتماعي ضيق أقرب إلى البيئة الريفية منه إلى البيئة الاجتماعية المدنية)، عانت من سيطرة قبضة أمنية وقفت عائقاً أمام تشكل أية بادرة لحراك منظم وسليم يحدث تغيراً في الوعي العام، من خلال سياسة قمع المظاهرات قبل بدايتها، وعمليات القتل والضرب والاعتقالات وتلفيق التهم المختلفة للمتظاهرين.. ومن أخطر أشكال الحلول الأمنية التي تم اتباعها، هو العمل على ضرب أبناء المحافظة الواحدة أو المدينة الواحدة بعضهم ببعض، وذلك من خلال تجنيد مجموعات كبيرة ممن هم معروفون ومشهورون بسوء السمعة والسجل الإجرامي والأخلاقي المرفوض اجتماعياً، ودفعهم لضرب المتظاهرين وإهانتهم تحت حماية بعض، أو أحد الأجهزة الأمنية..
هذه السياسات راكمت حاجز الخوف لدى المواطنين، وأدخلتهم في ما يشبه لعبة القط والفأر مع أجهزة الأمن، إذ أصبح الهاجس لدى البعض العمل على إنجاح التظاهر وخلق أشكال جديدة من التعبير عن الرأي تحقق درجة أكبر من الحماية للمشاركين فيها وتسقط عنهم تهمة «الجلوس في المنزل» أو «الصمت العام» المتمثل بغياب تلك الدائرة الحمراء الصغيرة على الخريطة.
وهكذا ظهرت المظاهرات الطيارة والاعتصامات داخل المنازل (*) وغيرها من المظاهر التي عكست عناد الشعب السوري وإصراره على التمسك بحقه في التعبير عن رأيه، والرغبة في المشاركة في الفعل الوطني بأشكال سلمية تؤمن له أكبر درجة ممكنة من الحماية.
ركزت هذه الأنشطة بطبيعتها على البعد الإعلامي الذي تحول إلى شهادة حسن السلوك يسعى الكل لكسبها من خلال توثيق هذه الأنشطة ونشرها على صفحات الإنترنت والقنوات الفضائية، إلا أنها في الوقت نفسه ساهمت – دون أن يدري أصحابها – في تبسيط واقع الحراك من خلال تحويله إلى حروب إعلامية وتحول التظاهر إلى غاية بدلاً من وسيلة.
فمقاطع الفيديو التي صورت تلك الأنشطة كرست المزيد من الخوف نتيجة الطابع السري والمغلق الذي تمت فيه تلك الفعاليات، بدل دفع الناس اتجاه المزيد من الشجاعة في التعبير عن الرأي صراحةً وتحمل التبعات التي تنتج عن ذلك.
إضافة إلى أن واقع الأحداث والتضييق الأمني الشديد جعل لبعض الأنشطة طابعاً يخالف مبادئ ومعتقدات الأفراد الذين شاركوا فيها والدور الهام الذي يلعبونه في حياة مجتمعهم، فالنساء مثلاً في الاعتصامات المنزلية، عمدن إلى إخفاء ملامح وجوههن بالكامل لتخرج كلماتهن وبياناتهن مكتومة ضعيفة من غير أفواه، وهي صورة تتناقض مع حقيقة واقع المجتمعات السورية بشكل عام، والدور الحيوي الذي تلعبه المرأة فيها.
وهنا يحق لنا طرح السؤال التالي: كيف يمكن للممارسات الأمنية المستمرة وما تخلقه من حالة الخوف هذه أن تكون ضامناً للإصلاح والتغير والحوار الوطني؟ كيف يمكن أن يتم الحوار بين أفراد لا وجوه لهم ولا ملامح؟ ومن المستفيد من إلغاء الأطياف المتنوعة والغنية في الشارع السوري واختصاره للونين الأبيض والأسود فقط؟
*الاعتصامات داخل المنازل: هو شكل جديد من الاحتجاج جرى في إحدى المحافظات، حيث تجتمع مجموعة من النسوة المحتجات في أحد البيوت وهن شبه منقبات لكي لا تُعرف هوياتهن، (وهذا يخالف اللباس التقليدي والمعاصر للمرأة في هذه المحافظة)، ويعبرن عن احتجاجهن من خلال الهتافات والأناشيد الوطنية..