نحو دستور جديد..
لم يعد هناك خلاف في سورية على عمق الأزمة التي تشهدها البلاد، فهي أزمة سياسية اقتصادية اجتماعية عميقة، لا مخرج منها إلا بإجراءات من النوع نفسه وبالعمق نفسه. وما لم تصل الإجراءات إلى هذا العمق نفسه فإن الأزمة ستطول بغض النظر عن شكل تطورها والاختلاطات التي ستصيبها، بما تعنيه من تزايد للأخطار التي تتهدد البلاد في وحدتها الوطنية.
إن البنية السياسية القائمة في سورية والمشرعنة عبر الدستور الحالي، أثبتت بما لم يعد ثمة شك أنها تعاني من مشاكل كبيرة في التعبير عن مصالح الشعب السوري وتحقيق تطلعاته في مختلف المجالات، مما ولد منسوباً عالياً من عدم الرضا لدى الشارع السوري، وقد تم التعبير عنه بأشكال مختلفة، وبحركة شعبية تمارس حراكها سواء عبر التظاهر أو بالنقاش أو بالتفكير.
إن صياغة بنية سياسية جديدة أصبح ضرورة أساسية لا يمكن تحقيقها إلا بدستور جديد، فالتعديلات الدستورية التي كان يجري الحديث عنها، وخاصة المادة الثامنة لا تلبي وحدها ما هو مطلوب.
المسألة تتلخص في أن الدستور الحالي هو تعبير عن حالة لم تعد موجودة كما كانت حين جرت صياغته قبل أربعين عاماً، بل طرأ على هذه الحالة تغييرات كبرى سياسية واقتصادية واجتماعية.
إن المطلوب إذاً هو دستور جديد يعبر تماماً عن المرحلة القائمة حالياً للسير نحو المستقبل، ويسمح بانبثاق جديد للبنية السياسية والسلطات المختلفة (التنفيذية والتشريعية والقضائية) التي ينبغي تحقيق الفصل فيما بينها. وإن أهم ملامح الدستور الجديد يجب أن تكون:
• أن يحافظ ويعمق ويعزز الوحدة الوطنية عبر ترسيخ مكونات الدولة الوطنية.
• أن يؤمن حقوق المواطنة الكاملة والمشاركة لجميع المواطنين السوريين بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو القومية أو الجنس... في جميع المجالات والمناصب الرسمية بمختلف مستوياتها.
• أن يضمن فعلياً كل الحقوق، بما فيها الحريات السياسية، وكل الأدوات اللازمة لممارستها ومنع التضييق عليها.
• أن يأخذ بعين الاعتبار أن البلاد دخلت مرحلة تغيير عميق في بناها السياسية، مما يعني نشوء فضاء سياسي جديد سيتم فيه موت أشكال وقوى سياسية واختفائها من الواقع، إن لم تكن قد اختفت فعلياً من حيث الدور على الأقل، وأن قوى وأشكالاً سياسية جديدة ستنشأ، وقوى ذات أشكال سياسية ستتكيف مع الواقع الجديد.
إن كلاً من الدستور الجديد وقانوني الأحزاب والانتخابات الجديدين من أهم عناصر الإصلاح السياسي، الذي يجب أن يكون جذرياً لضمان العبور إلى المرحلة الجديدة مع الحفاظ على الوحدة الوطنية وتأمين أعلى منسوب للحريات السياسية، التي ستسمح بإحداث التغييرات المطلوبة اقتصادياً واجتماعياً في حياة الشعب السوري، وتسمح بالقضاء على الفساد والنهب وتحقيق الرقابة المجتمعية على أجهزة الدولة المختلفة، والتي بات مطلوباً إعادة هيكلتها وفقاً لمصالح المجتمع ومتطلبات ومعطيات المرحلة الجديدة.
إن ما يجري في المجتمع السوري من حركة ونقاش يؤشر في جوهره إلى مضمون وجوهر الدستور الجديد، وهذا المضمون سواء أتى بشكل حوار رسمي أم لا، فإن صوت الحركة الشعبية عال إلى درجة لا تخطئها آذان السامعين أو بصيرتهم، وتؤشر لعمق التغييرات المطلوبة في حياة البلاد، والتي ينبغي أن يرصدها ويعبر عنها دستورها المنشود.
إن عامل الزمن في هذه التغييرات هو عامل مهم، لأن تأخيرها أو إعاقتها من أية جهة كانت، يعني إعاقة ظهور عناصر حل الأزمة والسماح باستمرار الأخطار المرافقة لها على مستقبل البلاد والعباد، وعلى الضمانات الفعلية لكرامة الوطن والمواطن.