الافتتاحية تجريب المجرّب...؟
الأسعار ترتفع بشكل غير مسبوق ضاربة بقسوة مستوى معيشة السواد الأعظم من الناس... الذين كانوا يتحملون بصمت شظف العيش وبدؤوا الآن بالتعبير عن استيائهم بشكل أوضح فأوضح، لا لشيء بل لأنهم لا يرون نهاية لهذا المسلسل المستمر في وقت تتنامى فيه ثروات البعض بشكل استفزازي لم يسبق له نظير... والحال هذه ترمي بثقلها على الأوضاع النفسية والمعنوية لجماهير الكادحين، بشكل يُمكّن من القول: إن إرهاق المجتمع نتيجة الأوضاع الاقتصادية ـ الاجتماعية سيبلغ قريباً، إذا لم يعالج، حداً خطيراً لا يبشر بخير...
إن محاولات المعالجة التي تتم حتى الآن، إذا تمت طبعاً، ترتدي طابعاً جزئياً انطلاقاً من سد الثغرات التي أصبح عددها كبيراً وأصبحت تهدد، إذا ما اتصلت ببعضها بعضاً واستمرت، بكارثة حقيقية ليست البلاد بحاجة إليها، ويمكن تجنبها وتغيير مسار الأوضاع الاقتصادية ـ الاجتماعية بشكل جدي.
والظاهر أن الفريق الاقتصادي في الحكومة لا يعي حجم خطورة الوضع، وإن وعى فإن المصيبة أعظم..
لا نريد التهويل والمشكلة اليوم ليست فيه، وإنما في التهوين الذي يمكن أن يُدفع ثمنه غالياً.
إن الجماهير الشعبية، في معاناتها اليوم، تدفع ثمن السياسات الاقتصادية الكلية الخاطئة، وهي ليست مضطرة لذلك، والعدالة تكمن في أن يدفع ثمن الأخطاء من قام بها، وليس من تضرر منها..
ومعروف المثل الشائع الذي يقول: من جرّب المجرّب....
فما هو هذا المجرّب؟
بلدان كثيرة طبّقت السياسات التي يجربها فينا الفريق الاقتصادي الحكومي.. بلدان قريبة وبعيدة... ولكن تجربتها ونتائجها قريبة ومعروفة..
ــ فالسياسة الاستثمارية إذا لم تكن توسعية ومتجهة نحو الاقتصاد الحقيقي المرتبط بالإنتاج الفعلي، فنتائجها كارثية على مستوى الأسعار ومستوى المعيشة، والذي جرى أن المكان الصالح لسياسة استثمارية توسعية حقيقية، ألا وهو قطاع الدولة، جرى انكماش واعٍ فيه، وجرى عكس ذلك تجاه القطاع الخاص وخاصة غير المحلي الذي اتجه نحو الأراضي والعقارات تحت اسم «صناعة السياحة» أحياناً، ووصلنا إلى ما نحن عليه من وزمة تضخمية مالية هي انعكاس لزيادة في كتلة نقدية في السوق غير متناسبة مع الكتلة السلعية الحقيقية التي إذا ما جرى دراستها بعمق سيتبين أنها حتى انكمشت.
ــ أما في مجال سياسة الدخول فقد فتح الباب على مصراعيه لأصحاب الأرباح، وجرى تقييد واع للأجور مما أدخل لأول مرة ـ يا فرحتنا ـ بعض السوريين في قائمة المليارديرية دولارياً والمعترف بهم دولياً من جهات مختصة دولية (مجلة فوربس مثلاً). إن دراسة حقيقية غير منحازة ستثبت على الأرجح أن الفقر في سورية قد ازداد كمّاً ونوعاً...
كلّ هذا جرى تحت ستار أن الدخول العالية ستخلق بؤر جرّ، وتخلق فرص عمل وتحسن مستوى المعيشة، مع أن الدراسات الجدية تقول: إنه حتى في الهند والصين، حيث النمو كان عالياً، انعكس ذلك سلباً على مستوى الأغلبية الساحقة للناس (انظر الصفحة 8 من هذا العدد)..
ــ وأخيراً وليس آخراً، يقوم الفريق الاقتصادي بنشاط لم يسبق له مثيل بمحاولات لخصخصة مرافق هامة كانت احتكاراً للدولة، وتأتيها بموارد هامة للخزينة، وآخرها قضية مرفأي طرطوس واللاذقية، مما يعني على المدى المتوسط والطويل؛ إذا ما استمرت هذه السياسة، تجفيف منابع موارد الدولة وإضعافها، وإنهاء أي تأثير حقيقي لها على مجرى الحياة الاقتصادية ـ الاجتماعية، الأمر الذي يشهد في العالم موجة ارتداد عنه بعد تلمّس أثاره السلبية...
والنتيجة التي هي جوهر المشكلة أن الناس في الشارع تفهم السياسة دون «فلسفة» كبيرة، من خلال لقمتها فقط لاغير، وإذا أصبح صعباً بل عسيراً الحصول عليها، فهذه قضية سياسية من الدرجة الأولى وبامتياز. وليس لدى بلدنا في هذه الظروف الدقيقة والخطيرة التي أفلتت الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية من عقالها، نتيجة أزمتها الخانقة، أي ضرورة «لتجريب المجرّب»..
نعم.. لقد استطاعت القوى الوطنية والشريفة والنظيفة في الدولة والمجتمع منع الفريق الاقتصادي من تنفيذ برنامج الحد الأعلى الذي يسعى إليه، ولكنه في الواقع ينفذ برنامج الحد الأدنى إذا لم يكن أكثر من ذلك بقليل أو كثير.. نعم.. لقد أُوقف رفع الدعم بالسيناريو الكارثي الأول الذي اُقترح وفشل، ولكن على أرض الواقع اُختلقت أزمة المازوت ورفعت الأسعار بشكل غير قانوني ولو مؤقتاً، والأمر سيان بالنسبة للمواطن العادي.. إن الليبرالية الجديدة تهاجم الاقتصاد الوطني على طول الجبهة، وأصبحت سياسة سدّ الثغرات غير كافية لمواجهتها.. المطلوب تغيير إحداثيات المواجهة معها جذرياً والانتقال إلى سياسة اقتصادية ـ اجتماعية قوية، لصالح الوطن والمواطن، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن...