الافتتاحية الفوضى اللافكرية..

اتهم نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية السيد عبد الله الدردري، في إحدى الجلسات الأخيرة مع بعض الإعلاميين، الطروحات التي تناقش أفكاره ومعالجاته بـالفوضى الفكرية، وهذا التصريح يستحق الوقوف عنده لما يحمله من دلالات عميقة..

فلنتذكر أولاً أنه هو لا غيره، الذي صرح مؤخراً أنه لن يتبع سياسات أدت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وجُرِّبت في سورية في العقود الماضية وفشلت، وذلك في معرض تعقيبه في تلفزيون الدنيا على تصريحات بعض المختصين الذين شاركوا في ندوة: «آثار رفع الدعم» التي دعت إليها جمعية العلوم الاقتصادية في 30/7/2008 ولم يحضرها النائب الاقتصادي رغم دعوته إليها..

إن هذين التصريحين يحملان دلالات عميقة وبعيدة المدى، وسنحاول أن نأتي على نقاشهما..

إن توجيه الدردري تهمة «الفوضى الفكرية» لمن لا يوافقه الرأي، يعني ضمناً أنه يتمتع بدرجة عالية من التنظيم الفكري، ولا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من أمامه، فلنرَ مدى دقة ذلك..

إن اتهام التجربة السورية بالفشل خلال العقود الماضية، يعني الشطب بجرة قلم على إنجازات واقعية تحققت على الأرض رغم كل النواقص التي شابتها، وهي على سبيل المثال لا الحصر:

1 ـ الطابع الاجتماعي القوي للتطور الاقتصادي الذي منع التضخم وهبوط مستوى المعيشة من الوصول إلى الدرك الذي أوصله إليه الدردري وفريقه الاقتصادي خلال سنوات قليلة لم تتجاوز العقد الواحد.

2 ـ فهل وصول احتياطي النقد الأجنبي في سورية إلى عشرات المليارات من الدولارات هو فشل، أم أن الفشل هو التفريط بهذا الاحتياطي كما يجري اليوم؟

3 ـ هل تحقيق الأمن الغذائي، وتأمين سورية لاحتياطي يكفيها لسنوات عديدة من المحاصيل الاستراتيجية هو الفشل، أم التفريط به خلال عامين لا غير ما استدعى البدء باستيراد القمح على سبيل المثال لأول مرة في تاريخ سورية الحديث؟

4 ـ هل تحقيق مجانية التعليم على كل المستويات هو فشل، أم القضاء التدريجي على هذا الإنجاز هو الفشل الذريع بعينه؟

5 ـ هل تحقيق الدعم للمواد الأساسية كي تستفيد منها الشرائح العريضة من المواطنين خلال عقود هو فشل، أم نسف هذا الدعم خلال عام واحد هو الفشل بعينه؟

6 ـ هل تحقيق وتائر نمو حقيقية في الاقتصاد السوري في السبعينيات والثمانينيات هو فشل، أم أن النجاح هو الأرقام الخلبية للنمو التي لا يجني منها المواطن البسيط إلا المزيد من الانخفاض في قوته الشرائية ومستوى المعيشة؟ والأنكى من ذلك أن هذا الفريق الاقتصادي الذي يسير في طليعته السيد الدردري، لا يستطيع الاتفاق مع المؤسسات الدولية المختلفة التي ترعاه على رقم محدد للنمو، فأطلقوا موجةً من الأرقام أدخلتنا في فوضى أرقام نمو لم يشهد لها تاريخنا مثيلاً..

7 ـ هل الانضباط الفكري الذي يتمتع به السيد الدردري بعكس الذين يمارسون الفوضى الفكرية، يجعله يطلق النار على كلمة «اجتماعي» في مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي، ومن ثم ليعود لينكر كلامه هذا مع أنه كلام موثق؟.. هل هذا هو لا فوضى في الالتزام بقرارات مؤسسات الدولة والمجتمع، أم هو منظومة فكرية متكاملة لها هوى معين، وتمثل مصالح محددة؟

إن ما قام به الاتجاه الذي يمثله الدردري هو المثال الأسطع على الفوضى اللافكرية، والتي أصبحت تتجرأ أن تطلق سهامها على الجوانب الإيجابية في الماضي، وعلى ما يعيق حركتها في الحاضر.. ولابد من تذكيره بقول الشاعر الداغستاني الشهير رسول حمزاتوف: «إن من يطلق النار على الماضي من مسدس، يطلق عليه المستقبل النار من مدفع..»..

والأخطر الذي لابد من ذكره، والذي نتمنى ألاّ يكون كذلك، أن تكون هذه الفوضى اللافكرية في الممارسة هي جزء عضوي لا يتجزأ من الفوضى الخلاقة التي أرادتها الآنسة رايس وصحبها، والتي بدأت هزاتها الارتدادية تصيبهم هم أنفسهم في مقتل باقتصادهم الذي يترنح بصورة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.. إن كرامة الوطن والمواطن تقتضي الردع السريع لهذه الفوضى اللافكرية «الخلاقة»..

آخر تعديل على الأربعاء, 14 كانون1/ديسمبر 2016 14:30