الخبير المالي د.شبل السبع لـ«قاسيون»: هناك أزمة تطال جميع قطاعات الاقتصاد في العالم.. وليس الحلقة المالية فقط!
شهدت الشهور الستة الماضية إفلاس ثلاثة من البنوك الأمريكية الخمسة الكبرى، ما أثار زوبعة مالية عاصفة يمكن اعتبارها تاريخيةً بجدارة، فاشتعل الفزع في قلوب المستثمرين حول العالم، ولاسيما أن هذه الأزمة تهدد ضرورةً بسلسلة متتابعة من الاضطرابات في البنوك والمؤسسات المالية قد لا تنتهي إلا بانتهاء النظام الرأسمالي نفسه، الأمر الذي أجبر بعض المؤسسات المالية الأمريكية على إعلان إفلاسها وأجبر أخرى على مواصلة تخفيض أصول ديونها. وأشار محللون إلى أن القسوة الاستثنائية للأزمة المالية التي تعصف حالياً بالنظام المالي العالمي ستؤدي لا محالة إلى انهيار كثير من المؤسسات المالية الكبيرة، ويؤكد المحللون على ضرورة السعي الحكومي لحماية المؤسسات المالية الكبرى، وهو ما قامت به وزارة المالية الأمريكية حين تدخلت «تأميمياً» لنجدة المصرفين العملاقين «فاني ماي» و«فريدي ماك» الشهر الماضي. ولمتابعة أحوال الأزمة الحالية وآفاقها المتوقعة أجرت «قاسيون» حواراً خاصاً مع الخبير المالي والأستاذ في جامعة السوربون في فرنسا، شبل السبع:
الأزمة لم تعد عقارية
• ما هي مظاهر الأزمة الحالية بوجهها المالي، ما مدى اتساعها، وإلى أين وصلت؟
من المعروف أن الأزمة بدأت بمسألة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد توسعت حالياً لتشمل المصارف وشركات التأمين الأمريكية كافة، حيث أن كثيراً من الديون العقارية لم يتم تسديدها وتُقدّر هذه الديون بحوالي 750 مليار دولار، 400 مليار منها موجود في بعض المصارف وشركات التأمين الكبيرة في الولايات المتحدة، ومنها Merrill Lynch- AIG - City Group..الخ. وعليه فالأزمة لم تعد أزمة عقارية لأن هذه المصارف التي تحمل كل هذه الديون لم تعد تجد من يؤمّن لها الأموال، وبالتالي فإنها فقدت رأسمالها الذي يسمح لها بتأدية أعمالها اليومية، وصحيح أن البنك المركزي الأمريكي تدخل بتزويد هذه المصارف والشركات بالأموال اللازمة لتأدية المهام اليومية، لكن المشكلة أنه ما لم يكن هناك سوق تبادل مالي بين البنوك مع بعضها بعضاً فإن ذلك يعني انعدام الحركة الاقتصادية وانعدام إمكانية هذه البنوك في توفير الأموال لمنح الديون اللازمة للشروع بأي عمل كان، وقد تعمقت الأزمة مؤخراً كون كل مصرف يعتقد أن المصرف الآخر قد يعلن إفلاسه غداً! وبالتالي أدى ذلك إلى انكماش الحركة الاقتصادية بشكل سريع، ونتيجة هذا الانكماش انخفض ثمن الموجودات ـ أياً كان نوعها ـ بشكل فجائي، ما يعني أن الموجودات المصرفية لم تعد تملك القيمة نفسها التي كانت تملكها منذ ستة شهور، فقد انخفضت هذه القيمة بنسب متفاوتة من 15 – 30 % تبعاً للشركات. والشيء الجديد شديد الخطورة في الأزمة هو أنه بعد مرور عام على بداية الأزمة نكتشف أن شركات التأمين بالمجمل، وتحديداً أكبر شركة تأمين على الكرة الأرضية من ناحية الموجودات، وهي (AIG)، تملك بين موجوداتها الكثير من سندات التأمين العقارية، لكنها لا تستطيع بيع أيٍّ من الموجودات الأخرى لتسديد الخسارات الناجمة عن السندات العقارية التي عززت عمق الأزمة، والتي تقدر بـ 40 مليار دولار، والمشكلة أن هذه الـ 40 ملياراً يجب الحصول عليها بسرعة قبل أن يتم تخفيض نسبة الفوائد في المصارف، ورغم ذلك لم تستطع هذه الشركات تأمين النقود اللازمة قبل ذلك، فتم تخفيض نسبة الفوائد مما انعكس زيادةً في كلفة التعويض على شركات التأمين. أما البعد الآخر للمشكلة فهو أن البنك المركزي الأمريكي لا يستطيع التدخل عبر تقديم الديون لشركات التأمين لأنها مساعدتها ليست من وظائفه، فعمل البنك المركزي بصفته مصرف المصارف يقتصر على مساعدة المصارف فقط، ولا شأن له بشركات التأمين. والمطلوب إذاً هو إيجاد مصرف أو عدة مصارف تقبل بتقديم الديون لشركات التأمين ومنها شركة (AIG) مقابل موجوداتها، ثم تقوم هذه المصارف بعد ذلك بتقديم الموجودات التي أخذتها من شركات التأمين إلى البنك المركزي كمرهونات للاستدانة منه. ولا يبدو أن بنكاً من هذه البنوك قادر على فعل ذلك.
ولم تعد أمريكية الجنسية!
• كانت الأزمة إلى وقت قريب أمريكية الجنسية فقط، إلا أنها انتقلت بالأمس القريب لتغدو مشكلة عالمية، فهل يعني هذا أن الأزمة الحالية هي الأزمة العالمية المالية الأولى كما يقال؟
بالتأكيد نعم، لأن حجم التعامل الخارجي الذي تقوم به كل الشركات التأمينية الأمريكية الكبيرة، هو حجم التعامل الداخلي نفسه الذي تقوم به هذه الشركات.
• نحن نتحدث هنا عن الجانب المالي الذي هو سطح الظاهرة، أين هو برأيك عمق الظاهرة الاقتصادي؟
من المعروف أن المال هو عصب حياة الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي، والكلام عن أن الأزمة المالية القائمة حالياً لا تؤثر على سائر نواحي الاقتصاد هو كلام كاذب، ولا ننسى أن اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية وكل الأنظمة الرأسمالية في العالم يقوم بالأصل على الخدمات المالية، فعشرون بالمئة من الدخل القومي للولايات المتحدة يأتي من القطاع المالي، أي لا يمكننا القول إن هذه الأزمة ثانوية، فهي تطال عمق الاقتصاد وبرهان ذلك أن الشركات لم تعد قادرة على الاستدانة من المصارف لتقوم بأعمالها علماً بأن كل الشركات تحتاج إلى الاستدانة لتقوم بأعمالها (تمويل المخزون، والبضاعة..الخ)، وكل هذه الشركات لا تستطيع حالياً أن تحصل على الأموال وفي حال حصلت عليها فإن ذلك يكون بفوائد مرتفعة جداً. وصحيح أن فوائد البنك المركزي الأمريكي هي بشكل عام 2 % ويمكن أن يتم تخفيضها أكثر، إلا أن الفوائد التي يتعامل بها البنك مع الشركات أعلى بكثير وقد تبلغ من 5 – 7 % وذلك حسب نوع عمل الشركات، وبالتالي فإن ربحية أعمال الشركات تشهد انخفاضات سريعةً جداً، وذلك طبعاً في حال استطاعت أولاً الحصول على الأموال الكفيلة بتفعيل أعمالها!
إذاً، إن هذه الأزمة تطال جميع قطاعات الاقتصاد في العالم وليس فقط الحلقة المالية فيه.
• بما أن للأزمة بعداً عالمياً، فما هي أسباب تحسن وضع الدولار عالمياً في الأيام الأخيرة برأيك؟
هنالك تفسير وحيد، لقد طُلب حالياً من جميع البنوك في العالم أن تقوم بضخ الأموال في الاقتصادات، لأن هناك انخفاض في السيولة ولابد من تأمينها. ولدى البنك المركزي أو أي بنك آخر طريقتان لضخ الأموال في الاقتصاد أولاهما تسمى (ريبو) وفيها يقوم البنك المركزي بأخذ سندات خزينة البنوك الأخرى ويمنحها سيولةً بالمقابل، أما الثانية؛ فهي شراء عملة البلد الغريب، فالبنك المركزي الأوربي على سبيل المثال يقوم حالياً بشراء الدولارات من المصارف الأوربية مقابل اليورو، وبهذه الطريقة يتم تأمين السيولة للمصارف الأوربية من جهة، ويتم تأمين ارتفاع سعر الدولار من جهة ثانية، وبذلك تتم مساعدة البنك المركزي الأمريكي على ضخ الأموال دون أن يقلق بشأن سرعة هبوط سعر الدولار أو سرعة ارتفاع مستويات التضخم، ويمكن القول إن هذه الطريقة متفق عليها بين البنك المركزي الأمريكي والبنك المركزي الأوربي، لكن هذا الاتفاق لا يمكن أن يدوم لفترة طويلة لأنه سيأتي وقت تشح فيه الدولارات في المصارف الأوربية الأمر الذي سيمنع الأوربيين من شراء الأموال بغير طريقة الـ (ريبو) الأولى، وبالتالي سيفقد البنك المركزي الأمريكي حماية الدولار التي كان المركزي الأوربي يؤمنها له، وهذا هو التفسير الاقتصادي العقلاني الوحيد لمسألة تعافي سعر الدولار عالمياً.
ضخ مالي لتأخير انهيار الدولار
• كم برأيك بلغ مقدار الضخ الأوربي من الأموال لحماية الدولار حتى الآن؟
لا يوجد أرقام واضحة ونهائية، ولكن المعلن حتى الآن أن الضخ المالي الأوربي زاد عن 70 مليار يورو، وأشك في أن تتوفر أرقام دقيقة عن حجم الضخ المالي قبل فترة من الزمن قد تطول نسبياً، لأن البنوك المركزية ستحافظ على السرية بهذا الصدد بحيث تقوم لاحقاً بمفاجأة الأسواق لصالحها، وللتذكير، فقد قام البنك المركزي الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 بضخ 300 مليار دولار في السوق ولم يعلم أحد بذلك الضخ إلاّ بعد أسبوع من قيام البنك به.
• ورد في الأنباء أن المسؤولين السعوديين والإماراتيين قاموا بطمأنة مواطنيهم بأنه ما من داع للقلق حول الاقتصاد رغم الانهيارات التي شهدتها البورصات الخليجية مؤخراً، مبررين ذلك بأن الاقتصاد الخليجي متين، ومن المعروف أن الخليجيين يستخدمون فوائضهم المالية الكبيرة لدعم الدولار ريثما يتعافى من أزمته. برأيك، إذا ما استمرت هذه الأزمة، فكم من الوقت يستطيع الخليجيون الاستمرار في دعم الدولار من فوائضهم، ودون أن ينعكس ذلك بشكل كارثي على الاقتصاد الخليجي عموماً؟
ممكن أن يدخل الاقتصاد في حلقة سلبية تنعكس على الدخل القومي بالنقصان، لكن وجود فائض مالي كبير قد يساعد في المحافظة على الصمود الاقتصادي، وأحياناً يمكن أن يستمر ذلك فترة طويلة، فمثلاً عانت اليابان في التسعينيات من أزمة اقتصادية كبيرة، لكن فائض الميزان التجاري لديها حينها والذي كان يقدر بـ 100 مليار دولار سنوياً استطاع أن يحافظ على تماسك الاقتصاد وأن يمنع انهياره بالشكل الكلي. وبالنسبة للخليج فإن الفائض لديهم يبلغ حوالي 600 مليار دولار وهو بالنسبة لعدد السكان القليل نسبياً يسمح للخليجيين أن يحافظوا على تماسك اقتصادهم فترة طويلة أيضاً، خاصةً أمام استقرار أسعار النفط على ارتفاع نسبي بحدود 90 دولاراً للبرميل، ولذلك يمكنهم طمأنة مواطنيهم وهذا صحيح، لكنه لا يعني أن اقتصادهم سيشهد ازدهاراً، فاقتصاد اليابان في التسعينيات لم يشهد أي ازدهار.
الأزمة في بدايتها والأفق مفتوح
• برأيك، ما هي الآفاق الزمنية للأزمة الحالية، لاسيما وأنها المرة الأولى التي يشهد العالم مثل هذا النوع من الأزمات؟
على اعتبار أنها الأزمة الأولى من نوعها، فإن التاريخ لا يقدم لنا أية فكرة دقيقة عن الفترة الزمنية التي ستشهدها أزمة مثل هذه، إذ تقتصر التجربة التاريخية على أزمتين كبيرتين نسبياً قد تساعدان على استنباط فكرة ما عن الأفق الزمني لهذه الأزمة، وهاتان الأزمتان كانتا أزمة 1929 التي استمرت ثلاث سنوات والأزمة اليابانية في تسعينيات القرن الماضي والتي استمرت تسع سنوات، والفرق بين الأزمتين أن الأولى كانت حادة جداً وقصيرةً زمنياً، أما الثانية فكانت أقل حدةً واستمرت فترةً أطول من الزمن.
• أي أن الآفاق مفتوحة بين أزمة حادة سريعة، أو أزمة أقل حدةً لكن طويلة زمنياً؟
نعم، وأبرز سمات هذه الأزمة هي انعدام النمو.
• أي يمكن القول إننا في بداية الأزمة حالياً؟
نعم بكل تأكيد، نحن ما نزال في بداية الأزمة.
• برأيك ما الذي قد يستجد في هذه الأزمة الحالية على المدى المنظور؟
انطلاقاً من الوقائع الحالية، لن تستطيع الولايات المتحدة إيجاد حل لأزمتها الحالية إلا بعد الانتخابات الرئاسية، وذلك يتطلب بالدرجة الأولى تخفيض ميزانية الدفاع لأن حل هذه الأزمة سيضاعف العجز في ميزانية الولايات المتحدة، ولكي يخفضوا عجز الميزانية الذي سيصل 800 مليار دولار في بداية العام القادم، أي ما يعادل من 6 – 7 % من الدخل القومي الأمريكي، فإن أي حل لأزمة القطاع الخاص الأمريكي لن يتم إلا بتحويل الديون من القطاع الخاص إلى القطاع العام، وهذا ما يحصل حالياً. ونستطيع القول إن الرئيس الأمريكي القادم أياً كان، فإن أول ما سيواجهه سيكون عجزاً كبيراً جداً ما سيدفعه إلى زيادة الضرائب وتخفيض ميزانية الدفاع البالغة حوالي 400 – 500 مليار دولار، وهذا ما فعله بيل كلينتون عند استلامه السلطة حين خفض ميزانية الدفاع إلى الثلث قبل أن يستطيع بعد أربع أو خمس سنوات تخفيض العجز في ميزانية بلاده. أي أن أي حل فعلي للأزمة في الولايات المتحدة لن يتبلور قبل سنة أو ستة شهور على الأقل من الآن.