الافتتاحية: ما بني على خطأ فهو خطأ..

الأعمال تقاس بنتائجها، وليس بشعاراتها التي تعلنها عن نفسها.. وينطبق هذا المنطق على الخطة الخمسية العاشرة التي وعدت بأنهار الحليب والعسل، فأتت النتائج عكس التمنيات.. فأرقام الفقر والبطالة التي وُعدنا بتخفيضها ارتفعت، وأرقام النمو المأمول لم تتحقق، وهذه الأرقام نفسها لو احتسبت على أساس قطاعات الإنتاج السلعي حصراً لكانت النتائج أسوأ وسلبية بالمطلق.

فعلى أي أساس يقال إن نتائج الخطة الخمسية العاشرة إيجابية، وليس هنالك جانب هام واحد على الأقل حقق نتائج إيجابية؟ فلماذا المكابرة؟ ألا يعني ذلك أن الجهات التي قيمت الخطة، وهي قد قامت فعلياً بتقييم نفسها، تريد السير في الاتجاه الكارثي اقتصادياً نفسه؟ ألا يعني ذلك الإصرار على الاستمرار في الاتجاه نفسه الذي حسمت الحياة الموقف منه؟ ألا يعني ذلك أن النية عند هؤلاء صياغة الخطة القادمة على المنوال نفسه؟!
إننا الآن مادام لم يفت الأوان بعد، أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما البناء على أساس أن الخطة السابقة كانت نجاحاً بنجاح.. وإما استخلاص الدروس والاستنتاجات الضرورية للقطع مع تلك الخطة وإدارة دفة الاقتصاد الوطني باتجاه آخر يحقق النتائج الضرورية في مواجهة التحديات التي تنتصب أمامنا..
ـ لقد بنيت الخطة العاشرة في أجواء ما قبل الأزمة الرأسمالية العالمية العظمى، في ظل طغيان موجة الليبرالية الاقتصادية عالمياً، ونجاحاتها المحتملة الموعودة، أي أن أساسها الأيديولوجي كان مطابقاً للموضة السائدة آنذاك.. وجاءت على أرضية عملية تؤكد أن إدارة الدولة للاقتصاد الوطني بالطرق السابقة لم تعد ممكنةً في الظروف الجديدة..
ولكن سوء طالع هذه الخطة أنها إن بدأت في أجواء ما قبل الأزمة، فإنها تنتهي في أجواء الأزمة وتداعياتها وتعقيداتها وتفاقمها..
وانطلاقاً من ذلك، على الأقل، هل يمكن القول إنه يمكن بناء الخطة اللاحقة على هذا الأساس؟. إن العالم يتغير بسرعة وعدم استخلاص الدروس من ذلك سيدفع إلى مزيد من الأخطاء والكوارث..
إن النتائج السلبية للخطة الخمسية العاشرة مرتبطة ببنيتها ومنطقها، وليس بالظروف الخارجية كما يريد البعض أن يقول.. والدليل على ذلك أن المؤشرات السلبية كانت واضحةً في تنفيذ الخطة حتى قبل اندلاع الأزمة العالمية.. وكانت الأزمة عاملاً إضافياً فقط في زيادة الطين بلةً..
المعروف أن الاقتصاد السوري كان يعاني قبل وضع الخطة العاشرة وبعدها جملةً من الأمراض الوظيفية يمكن تلخيص أهمها بالتالي:
ـ انخفاض الاستثمار وانخفاض عوائده، أي انخفاض نسبة التراكم من الدخل الوطني في القطاعات الإنتاجية- السلعية المولد الحقيقي لأية ثروة جديدة.
ـ خلل عميق بين الأجور والأرباح، ما أدى إلى تراجع الاستهلاك بشكل عام لدى الشرائح الشعبية الواسعة وانخفاض مستمر لقوتها الشرائية.
وقد أدى هذان الأمران إلى عدم قدرة الاقتصاد الوطني على تجديد نفسه بالوتائر الضرورية لمواجهة التحديات الكبرى من نمو وفقر وبطالة.. التي كان الميل العام بتطورها سلبياً..
وقد أعلنت الخطة العاشرة رغبتها في التصدي لهذه التحديات ووضعت أرقاماً كانت تأمل في تحقيقها، ولكن الذي حدث هو العكس تماماً، إذ استمر الميل السلبي السابق، وتعقدت اليوم أكثر أمور النمو والفقر والبطالة... والسبب العميق لذلك يكمن في أن السياسات المتبعة أدت إلى تعميق الأمراض الوظيفية المذكورة أعلاه، وليس تخفيفها، فالاستثمار إن ازداد، إلا أنه لم يتوجه إلى قطاعات الاقتصاد الحقيقي، ما خلق وهماً بالنمو لم يكن إلاّ مجرد فقاعة سرعان ما انفجرت في موجات ارتفاعات الأسعار المتتالية تعبيراً عن ازدياد عدم التناسب بين الكتلة النقدية التي ساهمت نوعية الاستثمارات المجتذبة في تحقيقه، مع الكتلة السلعية المنخفضة باستمرار..
كما أن الخلل في الدخول بين الأجور والأرباح قد ازداد عمقاً، وكان التعبير الأسطع له هو ازدياد دائرة الفقر خلال الفترة الماضية باعترافات الجميع..
والجدير بالذكر أن هذه السياسات لم تكن نتيجة لخطأ عابر، بل هي انعكاس وتعبير عن أيديولوجيا وموقف طبقي جوهره ليبرالي محدد وشعاره دع الأغنياء يزدادون غنى.. ويبرر نفسه أن هذا الغنى هو محرك التقدم اللاحق..
وبالفعل، فقد ازداد الأغنياء غنى، وازداد الفقراء فقراً.. وبعد؟
ـ هل ارتفعت أرقام النمو الاقتصادي الحقيقي؟
ـ هل ارتفعت القدرة التنافسية للاقتصاد السوري بقطاعاته الإنتاجية المعروفة تاريخياً؟
ـ هل ازدادت الثروة الوطنية المتراكمة من الناحيتين النقدية أو العينية؟
ـ هل ازداد أم تراجع دور الدولة الاجتماعي في ظل التراجع الاقتصادي العام؟
الأجوبة أصبحت معروفة، فهل من المعقول أن تصاغ الخطة الحادية عشرة بالمنطق السابق نفسه، على أمل الوصول إلى النتائج الموعودة غير المتحققة في الخطة العاشرة؟ هل ننتظر خمس سنوات أخرى كي نتأكد مما أثبتته السنوات الخمس للخطة الخمسية العاشرة؟ إن الاستمرار في الخطأ والإصرار على التجريب السابق سيدفعان الأمور باتجاه واحد فقط لا غير، وهو تحويل الأمراض الوظيفية التي يعاني منها الاقتصاد السوري إلى أمراض عضوية لا ينفع معها أي علاج، ما سيهدد النظام السياسي- الاجتماعي القائم في البلاد، والذي استطاع خلال العقود الماضية أن يؤمن الحدود المعقولة للتوافقات الضرورية للحفاظ على استقرار المجتمع.
إن الشرط الضروري اليوم للتوافقات الجديدة في المجتمع التي تضمن استمرار استقراره، هو القضاء جذرياً على السياسات الاقتصادية الليبرالية وإحداث انعطاف حاد في هذا المجال لمصلحة الاقتصاد الوطني وأكثرية المجتمع، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..