«نفدنا» سابقاً.. والجولة القادمة «كأي جولة»!
تتصاعد هذه الأيام عواصف تشاؤم إعلامي وسياسي حيال الجولة المقبلة من جنيف3، يثيرها سياسيون ورسميون، محليون وإقليميون ودوليون، ويردد صداها الإعلام «الموالي» و«المعارض» على حد سواء..
كذلك كانت الأمور قبل كل جولة من جنيف، وخلالها أيضاً، وصولاً إلى «التعبير عن الارتياح»، بل وعن «الشماتة» بعد انتهائها.. أما «الشماتة» فهي لسان حال المتشددين وأمراء الحروب: «ألم نقل مراراً ألّا حل إلّا بالحسم/ بالإسقاط»، وأما «التعبير عن الارتياح» فهو لسان حالهم أيضاً وهم يخاطبون أنفسهم «نفدنا»..!
بقي الحال كذلك منذ جنيف2، ووصولاً إلى جنيف3 بجولته رقم صفر - التي لم تنعقد فعلياً- وبجولته الأولى أيضاً. بعد ذلك بدأ كل شيء بالتغير..
خلال الجولة الثانية، التي تخللتها أعنف محاولات التعطيل والتخريب، ميدانياً وسياسياً، حدثت جملة من الأمور التي لا سابق لها، وعلى رأسها ما يلي:
نُزعت مرة وإلى الأبد، وبشكل ملموس ومباشر، الصفة الاحتكارية في تمثيل المعارضة، حتى أن تعليق وفد الرياض مشاركته لم يؤثر على سير الجولة التي استمرت أسبوعاً كاملاً بعد أن «حرد» وفد الرياض.
نُوقشت مسألة الجسم الانتقالي لأول مرة، وبشكل موسع وتفصيلي بعيداً عن المناكفة حول الأولويات (محاربة إرهاب أم حل سياسي)، وقدمت اقتراحات مختلفة برز بينها مقترح «نواب الرئيس» الذي يشكل مخرجاً عملياً لتنفيذ القرار 2254 على أساس من الدستور السوري النافذ، والذي يجسر الهوة بين الشعارات القصوى التي باتت ترمز بـ«الحكومة الموسعة» وبـ «هيئة الحكم الانتقالي».
التركيز على مسألة الجسم الانتقالي عنت ضمناً، إخراج طائفة كبيرة من «المسائل العالقة» من إطار التفاوض والابتزاز: المعتقلين، المخطوفين، المساعدات الإنسانية.. بما يجعل هذه «الأوراق» نفسها، أوراقاً ضد حامليها والمتلاعبين بها، لا أوراقاً لهم.. وهذا التحول –كما بات معلوماً- هو نتيجة مباشرة للدخول الروسي المباشر على خط محاربة الإرهاب، ولعمليات تشذيب وتقليم الأدوار الإقليمية المستمرة والمتصاعدة.
إنّ جملة النتائج التي خرجت بها جولة جنيف3 الثانية، وإن لم تلغ عواصف التشاؤم، إلا أنها حولت مسارها، فلا «شماتة» ولا «ارتياح» لدى مثيري التشاؤم، هنالك فقط تشاؤم صادق كل الصدق! تشاؤم وإحباط من الطراز الذي عبر عنه خلال الأسبوع الماضي كل من الرئيس الأمريكي باراك أوباما وزعيم استخباراته جون برينان، والذي سبقهم إليه بأسابيع، الجنرال ميشيل كيلو..
إنّ التشاؤم الصادق هذا لا يقف عند حدود «معارضة الرياض» وحلفها، بل ويتعداه إلى متشددي الموالاة أيضاً، والذين بات واضحاً أمامهم أن ما عملوا على تحقيقه طوال سنوات لن يتحقق..
وعليه، فإنّ عمليات نشر التشاؤم هذه لم تعد كما كان حالها سابقاً جزءاً من «خط سياسي» كامل، بل باتت انعكاساً حقيقياً للحالة الرديئة التي وصلتها الأطراف المتشددة وشعاراتها التي ذبحت الناس قرابين لها تنهار وتتبدد.. رغم ذلك فإن للمسألة بعداً آخر..
عن «مشروعية» التشاؤم!
يمكن للإنسان أن يحاجج فيما سبق بالقول أنّ التشاؤم مشروع، فالحال مقيم وقاتم.. ولمن يقول ذلك عن غير دراية بحجم المتحولات الجارية في الساحة الدولية عذره، ولكن ساسة الطرفين المتشددين الذين يعلمون ويبصرون تلك المتغيرات، بل ويلمسونها لمس اليد، وإذ يتشدقون هذه الأيام بما معناه أن الجولة القادمة هي كأية جولة أخرى فإنما يفصحون ضمناً عمّا هو أخطر بكثير من التشاؤم أو التفاؤل..
إذا وضعنا جانباً جملة الحقائق والوقائع الكبرى، الدولية والإقليمية والداخلية، التي تصب بمجملها في أن الجولة القادمة مرشحة بقوة لأن تكون أخيرة، يتم فيها الاتفاق ويتلوه التنفيذ، إذا وضعنا هذه الحقائق كلها جانباً وطرحنا السؤال البسيط التالي: إذا لم تكن الجولة المقبلة أخيرة فإلى أين ستمضي الأمور؟
إن عدم الوصول إلى اتفاق في الجولة المقبلة، يعني أن الجدول الزمني لتنفيذ القرار 2254 قد تم تجاوزه بشكل يعرضه لخطر كبير يمكن استناداً إليه (الخطر) العودة إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار جديد، وذلك يعني ضمناً تدمير ما تم التوصل إليه كله، وتأجيل الحل أشهراً وربما سنوات أخرى..
هل يستطيع الجهابذة الذين يتشدقون بأنها (جولة كأي جولة) أن يقولوا للسوريين كم سيكلفهم أن تكون الجولة المقبلة (جولة كأي جولة)؟!
كم عدد السوريين الذين سيقتلون بالانفجارات والقذائف والرصاص والخطف والاعتقال والمرض والجوع والبرد الذي يترصد على الأبواب؟
ما هو حجم الدمار الذي سيضاف؟ كم سورياً سيبقى في سورية؟ هل من ضامن أن جهاز الدولة السوري لن يصبح جهازاً ضعيفاً وهشاً وهامشياً في حياة البلاد بنتيجة سياسات التوحش النيوليبرالي الاقتصادية التي تسير على قدم وساق ضاربة بعرض الحائط أوضاع الحرب وآهات الناس وآلامهم لتزيد أصحاب الربح ربحاً، وتزيد أصحاب الأجر بؤساً وفقراً؟ هل تضمنون للناس أن تبقى سورية؟
إن هؤلاء المتشدقين المتشائمين، يعبرون اليوم صراحة عن أن البلد كلها، بأرضها وناسها، ليست أغلى على قلوبهم من مصالحهم وأرباحهم وأحلامهم وطموحاتهم الضيقة والأنانية..
إنّ الوطنيين الذين يرون ما يجري، ويرون خطورة عدم نجاح الجولة المقبلة في الوصول إلى اتفاق، خطورة ألا تكون جولة أخيرة، يناضلون لتكون الأخيرة.. وهي ستكون كذلك لأن هؤلاء موجودون، وفي مختلف المواقع، ولأن الظرف الدولي والإقليمي والمحلي يسير إلى حيث تشتهي أفئدة السوريين، إلى حل سياسي يفتح الطريق لتغيير جذري شامل يمنح السوريين بلداً ونظاماً كما يستحقون فعلاً..