الافتتاحية: زيادة الأجور.. والحقائق المتجاهَلة
تصاعد النقاش حول زيادة الأجور مع اقتراب العام من نهايته، أي مع اقتراب الخطة العاشرة من استحقاقها النهائي الذي وعدت به فيما يخص زيادة الأجور 100% خلال السنوات الخمس.
قبل الخوض في تفاصيل الموضوع المباشر تجب الإشارة والتأكيد أن الهوة بين مستوى الأجور الحالي، أي القائم اليوم، وبين ضرورات مستوى المعيشة، كبيرة جداً، وردمها نهائياً يحتاج على الأقل إلى أربعة أضعاف مستوى الأجور الحالية، ومع صعوبة تنفيذ هذه المهمة إذا تم الاعتراف بها، إلاّ أنه كما هو واضح، ليس هنالك أي برنامج زمني لدى الحكومة يأخذ ذلك بعين الاعتبار، سواء على المدى الزمني المتوسط أو البعيد، أي أن هذا الاستحقاق الأهم ليس على جدول الأعمال حتى اليوم، والبداية يجب أن تكون بالاعتراف بهذه المشكلة وليس المطلوب إطلاق وعود غير واقعية، وإنما مصارحة الشعب السوري والتشاور معه حول آفاق حلها ووضع مهمات وآجال ملموسة بهذا الاتجاه..
أما حول الزيادة في الأجور 100% فالخطة والحكومة لم توضحا ما هو المقصود بالزيادة هذه حينذاك؟ أهو الأجور الحقيقية؛ أي الأجر المحسوب على أساس نسب التضخم «أي نسب ارتفاعات الأسعار»، أم الأجور الاسمية؟ ولكن الواضح من سير الأمور أن الحديث يجري عن الأجور الاسمية، التي وإن زادت 100% خلال الفترة المذكورة إلاّ أنها بالكاد تغطي نسب التضخم إذا لم يكن قد تجاوزها.. وبالتالي يمكن اعتبار زيادة الـ100% هي تعويض عن ارتفاعات الأسعار لا علاقة له نهائياً بالتحسين الفعلي للأجور..
ومع ذلك، ومع اقتراب الاستحقاق الأخير لإيصال الزيادة إلى هدفها الـ100%، والمتبقي منه 35%، صدرت تصريحات حكومية رسمية هدفها التنصل من هذه الزيادة حتى وإن تم التصريح بالعكس.
والحجة أنه إذا ضمت الترفيعات الدورية على الرواتب خلال الفترة الماضية يتبقى في ذمة الحكومة 17% فقط، وليس 35%.
إن في هذا المنطق تجاهلاً لحقيقة أساسية هي أن الحديث كان يجري عن زيادة سلم الرواتب والأجور 100% دون علاقة لذلك بالترفيعات الدورية، التي هي حق لأي صاحب أجر ثابت، سواء كانت هناك زيادات على الأجور أو لم تكن.
لقد قلنا سابقاً إن مستوى الأجور وقدرتها الشرائية في انخفاض مطّرد بسبب سباقها غير المتكافئ مع ارتفاعات الأسعار، التي تتحول في نهاية المطاف إلى أرباح تتمركز أكثر فأكثر في البلاد بين أيدي قلة من الناس، تقل أكثر فأكثر.. فهل يعقل في هذا الوضع أن تبخل الحكومة بـ18% من الوعد المقطوع لا تتجاوز قيمتها النهائية نحو 100 مليار ليرة سنوياً، مشكّلةً نحو 4% من الدخل الوطني فقط، والأهم نحو 5% من الأرباح المتمركزة في الطرف الآخر؟!
إن الموارد الضرورية لزيادة هذا الأجر تحديداً، بل لأجر أكبر منه بكثير، متوفرة وموجودة، ولكن يجب البحث عنها وتحصيلها عبر محاربة الفساد الذي يجني أرباحاً غير مشروعة وفاحشة.. وعبر معالجة التهرب الضريبي وخاصةً للمكلفين الكبار..
إن إثارة النقاش من طرف الحكومة حول الوعود السابقة، ومحاولة التنصل منها بطرق فنية، إن كان يدل على شيء فهو يدل على عجز وفشل السياسات الاقتصادية المتبعة عن تحقيق حدود أدنى من الدنيا لمتطلبات معيشة المواطن السوري.
مع كل أهمية النقطة المثارة، إلاّ أن النقاش يجب أن يتركز في الخطة الخمسية الحادية عشرة حول حجم الهوة الذي ستردمه بين الأجور ومتطلبات المعيشة، وهي قادرة بسياسات اقتصادية- اجتماعية ذكية وقوية وعادلة على ردم نصفها على أقل تقدير، ويجب أن تأخذ الحكومة لاحقاً على عاتقها زيادة الأجور الحقيقية وليس الاسمية، ما سيتطلب إعادة النظر بطريقة حساب رقم التضخم الذي يبقى رسمياً اليوم بعيداً عن الحقيقة والواقع..
إن معالجة قضية الأجور آنياً ومستقبلياً هي قضية وطنية كبرى، وهي أحد أسس الاستقرار الاجتماعي، لذلك يجب أن تعار الانتباه الذي تستحقه، أو على الأقل أن تعيرها الحكومة ذلك الانتباه الذي يحظى به الرأسمال الخاص حين يتم بحث امتيازاته وتسهيل أعماله.. وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..