العقول الصغيرة و«لعبة الشماتة»!

العقول الصغيرة و«لعبة الشماتة»!

يمكن لمتابع الوسائل الإعلامية، أياً كان نوعها، تقليدية وغير تقليدية، بما في ذلك صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، أن يلمس قدراً هائلاً من التشفي والشماتة مع كل حدث سياسي أو أمني جديد، وعلى الأخص مع الأحداث دموية الطابع..

هر هذا الأمر بوضوح مع تزايد عدد وحجم الأعمال الإرهابية التي ضربت في أوروبا وغيرها، وكذلك مع محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا. وليس صعباً أن يراجع المرء الأحداث وما رافقها من ردود أفعال «شامتة».. ولكن ما يهمنا في هذا المقام ليس ردود أفعال الناس العاديين، التي تشكل بمجملها صدىً لردود الأفعال المسوّقة عبر المنابر شبه الرسمية، والتي تأتي عادة «دبلوماسية الطابع»، كالقول مثلاً «سبق وحذرنا» والقول بأن «أفعال الغرب ترتد عليه» وما إلى ذلك..

إنّ قيام الناس بإعادة صياغة «الشماتة شبه الرسمية»، بطريقتهم الخاصة، له تفسيراته العديدة التي ترتكز إلى الآلام التي لذعتهم نيرانها من الإرهاب وداعميه، وهي بذلك قابلة للتفسير وإن لم تكن قابلة للتبرير.. لكن ما يحتاج تفسيراً هو هذه «الشماتة شبه الرسمية»..

أين تقف الحدود؟

إنّ النظر شماتة إلى ضربات الإرهاب في أوروبا، يعكس ضبابية الرؤية السياسية التي تعانيها نخب سياسية محلية، فالنظرات قومية الطابع، التي ترى كل خراب خارج حدودها، وخاصة إذا أصاب «أعداءها»، انتصاراً لها، هي نظرات باتت متخلفة عن الواقع قرناً من الزمن على الأقل! فمن جهة تعتبر تلك النظرات أبناء القوميات الأخرى والدول الأخرى بجملتهم، إما أعداء وإما حلفاء، ولا تميز في واقع الأمر بين شعوب وحكومات، وإن ادعت ذلك التمييز «دبلوماسياً»، عدا عن ذلك فإن العالم ومنذ دخوله المرحلة الإمبريالية، فقد وإلى الأبد أية إمكانية للفصل بين دوله وشعوبه.. والمسألة لم تعد مسألة دول متحاربة في جوهرها، حتى وإن بقيت على السطح مظاهر احتراب دولتي الطابع..

إنّ الحديث عن الإرهاب اليوم، لا يستقيم ما لم يقرن بجوهره الاقتصادي- الاجتماعي. الإرهاب بهذا المعنى، ليس إلّا أحد تجليات عمل الفاشية الجديدة الممثلة لرأس مال مالي إجرامي عابر للقوميات وللقارات، لرأس مال يرى العالم بأكمله ساحة نهب واحدة، ويرى الشعوب بأسرها موضوعاً واحداً وموحداً للنهب.

«الإنسانية الملموسة»

امتداد ضربات الفاشية من دول الأطراف إلى دول المركز، وإذ يعني ضمن ما يعنيه، مؤشراً على انفجار الأزمة التي حاول هذا المركز تصديرها للأطراف، فإنّه يعني أيضاً أن شعوب العالم بأسره باتت قريبة إلى بعضها البعض أكثر من أي وقت مضى، وقريبة لا بـ«إنسانيتها» العامة والمجردة فقط، بل وبإنسانيتها الملموسة المتعلقة بحفظ النوع البشري والحضارة البشرية من الوحش الفاشي الذي يهدد بإحراقها.. يضاف إلى ذلك أنّ احتراق جوار دولة ما، وضمن التشابك القائم، لا يعني البتة انطفاء حريق تلك الدولة، بل يعني زيادة شدته وكارثيته..

لا يمكن للمرء أن يلوم كثيراً أصحاب النظرات القومية المتعصبة، فلطالما كان أفقهم الفكري ضيقاً ومحدوداً بمصالحهم التي تتكثف في سعيهم الدؤوب إلى الدفاع عن حقهم الحصري في نهب أبناء قوميتهم، والذي تحول في ظل الاستعمار الحديث، أي منذ أواسط ستينات القرن الماضي، إلى الحق الحصري في كونهم القنوات الأساسية التي عبرها يقوم الغرب بنهب شعوبهم، تاركاً لهم بعض الفتات..

إنّ الأفق الجديد ينفتح واسعاً أمام هذه الشعوب نفسها، واشتداد الحريق الفاشي ليس إلّا إيذاناً بانطفائه القريب.. وإنّ على هذه الشعوب أن تخرج من منطق الشماتة الذي لا يرتد إلّا عليها هي بالذات، وأن تذهب بالمقابل إلى منطق التعاون والتآخي بين مختلف قومياتها..