الافتتاحية: الشعب العامل هو محرك النمو وهدفه

ثلاثة مؤشرات تستحق الوقوف عندها لدلالاتها الكبيرة، فالميزان التجاري كما أعلن سورياً وعربياً، ازداد عجزاً بنسب عالية جداً في العامين الأخيرين، أما حجم الاستثمارات الأجنبية التي عول البعض كثيراً عليها خلال الخطة العاشرة، لم تبلغ إلاّ 1.5 مليار دولا أمريكي (690 مليار ل.س) عام 2009، واضعةً سورية في المرتبة الحادية عشرة بين الدول العربية من هذه الزاوية، بحصة قدرها 1.8% من مجمل الاستثمارات الخارجية المتدفقة إلى العالم العربي، وإذا علمنا أن حصة العالم العربي من الاستثمارات العالمية الخارجية هي أقل من 6% استطعنا الاستنتاج أن حصة سورية من الاستثمارات الخارجية في العالم تتجاوز حتى الآن 0.1% بقليل فقط، وإذا أضفنا ثالثاً إلى كل ذلك تضارب أرقام النمو المعلنة حيث جاء تقرير التنمية العربية مخالفاً لرأي الحكومة ومؤكداً أن النمو في عام 2009 كان أقل من 4% وليس نحو 6% كما أكدت الأرقام الرسمية.. إذا أخذنا كل ذلك وأسقطناه على المستقبل المنظور آخذين بعين الاعتبار تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي لم تبلغ ذروتها بعد، يمكن أن نستنتج التالي:

1 ـ العجز في الميزان التجاري سيزداد بنسب عالية، ويمكن أن تكون أعلى مما حدث في العامين السابقين، فأسعار الاستيراد إلى  ارتفاع بسبب وضع الأسواق العالمية، وإمكانيات التصدير إلى انخفاض بسبب السياسات الحكومية المشجعة للطابع الريعي في الاقتصاد السوري والكابحة لتطور القطاعات الإنتاجية.

2 ـ حجم الاستثمارات الأجنبية الواردة سينخفض بحكم الأزمة التي تحرق الأخضر واليابس في الاقتصاد العالمي، وستنخفض الاستثمارات الآتية من البلدان العربية بالذات بسبب الخسائر الكبرى التي ستتعرض لها أسواقها خلال الموجات القريبة القادمة من الأزمة، بغض النظر عن أن الذي أتى من هذه الاستثمارات كان يغلب عليه الطابع الريعي، وفضّل العمل في قطاعات ريعية غير إنتاجية.

3 ـ أرقام النمو المعلنة، الحقيقي منها والوهمي، ستسير نحو  الانخفاض، ليس بسبب العوامل المذكورة أعلاه فقط، وإنما بسبب السياسات الحكومية أيضاً، التي لم تأخذ على محمل الجد التحذيرات من أن القادم في الأزمة العالمية هو الأسوأ، معتبرةً أن كل ما جرى هو سحابة صيف عابرة.

إن كل ذلك بالمحصلة سيلقي بظلاله الكثيفة على مستوى معيشة المواطن السوري، الذي يتراجع باعتراف غير مباشر من جهات رسمية مختلفة من خلال إعلانها تراجع استهلاك السعرات الحرارية للمواطن السوري، وارتفاع أرقام التضخم، وصولاً إلى  التأكيد على ارتفاعات كبيرة في الأسعار.

إن الأرقام تؤكد، والوقائع تشير إلى فشل السياسات الاقتصادية الحكومية في احتواء آثار الأزمة العالمية، أو على الأقل التخفيف من نتائجها، بل العكس هو الذي حصل، فقد ازداد الطين بلةً جراء الإصرار على السير قدماً في السياسات الليبرالية الاقتصادية.

والسؤال الحقيقي هو: أليست هناك حلول أخرى فعلاً؟!

إن العقلية التي تدار بها الشؤون الاقتصادية تريد إقناعنا، بل إيهامنا بأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان.. والأرجح أن المشكلة في هذه العقلية في الذات التي لا تسمح لها بنيتها بالاعتراف بالأمور التالية، لأن الاعتراف بها سيفقدها مبرر وجودها.. وهي:

ـ إن الأزمة العالمية عميقة، طويلة، ولن تمر دون تغييرات بنيوية جدية في الاقتصاد العالمي تنقله بعيداً عن الرأسمالية بمختلف تلويناتها الليبرالية المتوحشة، ونصف الليبرالية، بل وحتى الليبرالية المخففة..

ـ إن مصدر أي نمو هو قطاعات الإنتاج الحقيقي، وأي نمو خارج هذه القطاعات هو نتاج ومشتق من النمو الأول..

ـ إن قاطرة النمو ليست التجارة ولا السياحة ولا قطاعات المال والأعمال، إلى آخر هذه المعزوفة القديمة.. بل التوزيع العادل للدخل الذي ينشّط السوق والإنتاج، ويسمح للاقتصاد باستكمال دورته حتى آخرها كي يستطيع إعادتها من جديد..

ولأن ما تقرره الحياة يصبح خارج النقاش، فإننا نستطيع أن نجزم بأن الحياة قد أكدت الحقائق أعلاه التي يستتبع الاعتراف بها تغيير جدي في العقلية والتوجهات جذرياً نحو:

• وضع حواجز أمام الأزمة العالمية، وتوجيه كل الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية وخاصةً الزراعة والصناعة، والتخفيف إلى الحد الأدنى من نواقلها إلينا عبر النشاطات الريعية المختلفة.

• الكف عن الوهم وقبض الريح بالتعويل على الاستثمارات الخارجية، وتوجيه كل الإمكانات لإيجاد موارد داخلية تتيح للنمو العادل أن يأخذ مجراه، وأول هذه الموارد هو الفاقد الذي يسببه الفساد والنهب في جهاز الدولة وقطاع الدولة، وهذا الفاقد بحد ذاته، مورد هام للتوظيفات اللاحقة إن أعيد توجيهه لمصلحة الاقتصاد والبلاد..

• اعتبار أن الشعب العامل بمختلف شرائحه والمقتنع بالسياسات الاقتصادية لحكومته، هو محرك النمو وهدفه.

إن السير في هذا الاتجاه، في خضم العواصف التي تقترب من منطقتنا، هو الضمانة لحماية كرامة الوطن والمواطن..