الافتتاحية: المحكمة الدولية والرهانات الخاسرة
يوم دخل جيش المحتل الأمريكي إلى العراق وبسرعة قياسية، كان السؤال الأهم الذي رددته العامة: أين الجيش وأين الشعب، وأين هم أحفاد ثورة كتائب العشرين؟ لكن سرعان ما تبين لمن لا يعرف وخصوصاً لأولئك الذين كانوا مزهوين بخطابات صدام وحروبه الداخلية والخارجية، إن الاستبداد لا يورّث إلا الهزيمة، وإن المقاومة الحقيقية للشعب العراقي البطل ضد المحتل لا بد آتية وهكذا كان!!.
.. ويوم قدم إلى دمشق وزير الخارجية الأمريكي كولن باول بعد سقوط بغداد لم يتوقع «البعض» أن ترفض سورية قائمة المطالب الأمريكية بعد الذي حدث في العراق، وكان في رأس تلك المطالب يومها أن تتخلى دمشق عن المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وأن تنتظم في رتل النظام الرسمي العربي الذي دخلت جيوش المحتلين من أراضيه وأجوائه ومياهه إلى بلاد الرافدين! لكن سورية بقيت كما هي ولم تغير موقفها رغم كل الضغوط.
.... ويوم صدر قرار مجلس الأمن العدواني رقم 1559 قبل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري بأشهر كان الهدف منه ليس معاقبة سورية فقط، بل التمهيد لاجتثاث المقاومة وعدم السماح بأن تتحول إلى خيار شعبي وحيد لمواجهة المشروع الإمبريالي- الصهيوني في المنطقة. وعندما فشل التحالف الإمبريالي- الصهيوني- الرجعي العربي في النيل من المقاومة ومن موقف سورية إزاءها جرى التفكير في خلق وإحداث زلزال داخلي في لبنان تكون تداعياته في خدمة المشروع الأمريكي- الإسرائيلي الرامي إلى تفتيت المنطقة عبر تأجيج المذهبية والطائفية. وفي هذا السياق جاءت مؤامرة اغتيال الحريري، وكل ما تلاها من تجييش «عربي ودولي» منظم ضد سورية والمقاومة اللبنانية و«اتهامها» باقتراف الجريمة والتي لم يستفد منها إلا الخصوم من واشنطن وتل أبيب مروراً بعواصم دول الاعتلال العربي.
وإذا كان مجلس الأمن الدولي الخاضع كلياً لواشنطن لم يقبل يوماً حتى بإدانة الكيان الصهيوني على جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، فإن انشغاله بتوضيب «محكمة دولية» خاصة بلبنان وتحت الفصل السابع وعلى مدى سنوات وتجهيز طاقمها من قضاة ومحققين، تكشفت فيما بعد ارتباطاتهم بأجهزة الاستخبارات الغربية، يستدعي ليس فقط الحذر والتشكيك بأهداف «المحكمة الدولية»، التي تتعارض مع كل ما قيل عن «رغبتها في كشف الحقيقة»، بل اعتبار تلك المحكمة أداة استثنائية لمتابعة مخطط الحرب المكشوفة على المقاومة وكل من يقف إلى جانبها.
وإذا كنا لسنا بصدد تقديم دراسة قانونية على الخروقات المتعمدة التي ارتكبتها المحكمة الدولية بحق الأبرياء الذين زجت بهم في السجون «الضباط الأربعة نموذجاً»، وفبركة شهود الزور وعدم الاعتراف لاحقاً بمسؤوليتها عن ذلك، فإن سير التحقيق يشكّل «عبر التسريبات» جدول العمل السياسي لفريق 14 آذار اللبناني ومن يسانده خلف الحدود داخل وخارج العالم العربي ضد المقاومة وسورية.
... ولكن بعد فشل حرب تموز وصمود المقاومة الأسطوري وبعد اتفاق الدوحة إثر 7 أيار 2008 تغير تكتيك «المحكمة الدولية» وبالتوازي تغير تكتيك قوى 14 آذار. فمن الاضطرار إلى إخلاء سبيل الضباط الأربعة، انتقلت ما تسمى بالأكثرية إلى سيناريو جديد يوحي بتحييد سورية ومواجهة المقاومة. بداية جرى التركيز على ضرورة إيجاد «حل» لسلاح المقاومة وجعله خاضعاً لسلطة الدولة، وصولاً إلى محاولة الالتفاف على صيغة البيان الوزاري «شعب وجيش ومقاومة» عبر الاستناد إلى زج كُبريات وسائل الإعلام العربي، والزعم بتورط حزب الله في جريمة اغتيال الحريري! واللافت هنا أنه كلما كان يزداد حجيج مسؤولي فريق 14 آذار إلى دمشق، كانت تزداد جرأة ووقاحة تصريحات المقربين من سعد الحريري ضد المقاومة وحزب الله تحديداً بهدف خلق «انطباع» واهم لدى الرأي العام اللبناني والعربي بإمكانية الفصل سياسياً بين سورية وحزب الله..
من الواضح هنا أن التسريبات المقصودة التي تقوم بها «المحكمة الدولية» ضد حزب الله تهدف إلى تهيئة المناخ لعدوان صهيوني جديد ضد لبنان وضد سورية، والتأثير على الروح المعنوية للمقاومة والتي هي أكبر من حزب، بل أصبحت خياراً شعبياً عارماً هو قاب قوسين أو أدنى من الانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم ضد المخططات الإمبريالية والصهيونية في المنطقة.
من هنا فإن الاعتماد على المحكمة الدولية وما ستقوم به ضد المقاومة وسورية يدخل في باب الرهانات الخاسرة التي لم يتعظ منها التحالف الإمبريالي- الصهيوني الرجعي العربي!